حقوق الإنسان العربي
صفحة 1 من اصل 1
حقوق الإنسان العربي
حقوق الإنسان العربي
الديمقراطية وحقوق الإنسان في الوطن العربي : مشاكل الانتقال وصعوبات المشاركة
*-*-*-*-*-*
أولا: في أصل الحديث العربي عن التعددية وحقوق الإنسان
1 تدعيم الشرعية:
إن أصل الحديث عن الديمقراطية ووجودها, في المجتمعات العربية مثل ما هو الحال في المجتمعات كافة, هو تأسيس الشرعية. وتعني الشرعية الديمقراطية انبثاق السلطة عن إدارة الجماعة الوطنية عامة, باعتبار أن ذلك هو القاعدة الشكلية لتأمين جوهر هوالأهم, أعني اتفاق قيم ومعايير السلطة وممارستها مع قيم ومعايير المجتمعات التي تخضعلها . وبهذا المعني فأن الشرعية تؤلف الضمانة كي لا تكون السلطة غريبة علي المجتمع أو خارجة عنه في أهدافها وغاياتها وسبل ممارستها والقيم التي تدافع عنها, أي ، أخيراً , هي ضمانة الانسجام والتوافق بينهما , ومن ثم مصدر الاستمرارية والتداول السلميللحكم , ومصدر وجود الدولة .
وقد كان تعميم هذا النمط الحديث من الشرعية السياسية السمة البارزة للعصر الراهن في العالم أجمع, وهو أكبر ثورة شهدها عالم السياسة الإنساني منذ أن تكونت الدول وقامت الجماعات الوطنية والمدنية. وفي الوطن العربي, كما في غيره من البلدان, دخلت مفاهيم التعدادية ونماذجها عن طريق التعميم والتعلم والتأثر الطبيعي للمجتمعات بالمجتمعات السابقة في هذا الميدان. وكانت النماذج الأولي لممارسة الديمقراطية في الأقطار العربية متأثرة إلي حد كبير بالعقيدة الليبرالية الكلاسيكية من جهة, وبالتوازنات التي أقامتها السلطات الاستعمارية والمباشرة أو غير المباشرة, من جهة ثانية, ولضيق أفق هذه النظم البرلمانية والتعددية , السياسي والاجتماعي , وغياب الأرضية الاجتماعية والفكرية القوية لها , تحولت بسرعة إلي واجهات شكلية تضم نخبة شبه أرستقراطية تتداول السلطة بين أعضائها ولا تتيح – إلا نادراً – توسيع قاعدة الممارسة السياسية الشعبية . لقد ساهمت هذه النسخة الأولي من الديمقراطية بمعني التعددية البسيط , في تمديد أجل البنيان السياسي العربي التقليدي الذي تشكل الوجاهة المحلية قاعدته الرئيسية .
ولهذا السبب ومع نمو الطبقات الوسطي بسرعة بعد الاستقلال, سواء بسبب تطور التعليم السريع أو بسبب تطور التوظيف العمومي والمؤسسات العسكرية والمدنية التابعة للدولة, وما ولده توزيع المداخيل الجديدة من إحياء للسوق التجارية, المحلية وشبة الصناعية أو الحرفية, لم تستطيع هذه الديمقراطية الأولي أن تقاوم طويلا, تهاوت بسرعة بالغة تحت ضربات القوي الاجتماعية الجديدة التي سلمت دون تردد – مقاليد أمورها – للجيش والنخبة العسكرية عموماً, ونشأت علي أثر ذلك أنظمة الحزب الواحد الصريحة في بعض الأقطار, والمغطاة بواجهة شكلية امتصت حتى مكسب التعددية الفعلي , في الأقطار الأخرى التي لم تتأثر بقوة بالمد التقدمي والثوري الذي طبع العقود التالية للاستقلال . ولم يكن هذا التطور الجديد الذي اتخذ طابع إعادة البناء السياسي علي أسس جديدة تطوراً غيرجماهيري أو معاديا للجماهير, كما نميل إلي التصور اليوم, ولكنه كان بالعكس مصدر شعبية كبيرة للنظم السياسية الجديدة. لقد سقطت النماذج التعددية الليبرالية في الوطن العربي , وفي كل مكان فيه دون استثناء , في موجة عارمة من التأييد والفرحة والأمل بانفتاح عصر جديد .
وبدت هذه التعددية للأغلبية الساحقة من النخبة الاجتماعية لذلك العهد, وكانت بحق, قاعدة لإعادة إنتاج سلطة محافظة من الناحية الاجتماعية, عصبوية من الناحية السياسية, معتمدة علي زعامات الأحياء والقري والعشائر والوجاهات المتنافسة والمتصارعة والمنطوية في رؤيتها السياسية وممارستها علي حقول نفوذها المحلية دون أدني نظرة وطنية شمولية, وعاجزة كلياً تجاه الخارج بل مرتبطة بالنفوذ الأجنبي. و ظهرت, في المقابل, فكرة النظام الواحد والحركة الثورية التي لا تحترم التعددية في عيون عموم الشعب, علي أنها الوسيلة لكسر هذه الحلقة المفرغة المعوقة للتقدم والتطور السياسي والاجتماعي والاقتصادي والقومي. وما ساعد علي ذلك ارتباط هذه الصورة نفسها بتجارب البلدان الاشتراكية والشيوعية التي كانت تبدو أنموذجا حيا لنجاح تجربة التنمية عن طريق الدولة وخارج أطر البناء التعددي التقليدي.
لكن انهيار المشروع التقدمي العربي, في مرحلة ثانية, بسبب عدم قدرته عليتوفير وسائل الحماية الخارجية ما فيه الكفاية, وفشل الإقلاع الصناعي, وتعثر الاندماج القومي, وما رافق ذلك بالضرورة من تراجع في بنية السلطة الوطنية وتقاليدها, أدي إلي إفقاد النظام السياسي الواحدي الذي ارتبطت به صدقيته وشرعية وجودة. فقد تغيرت نظرة الناس إليه وإلي وسائل تنظيم السلطة والحكم. وبقدر ما كان هذا النظام يعبر عند الغالبية العظمي عن الإدارة الشابة الوطنية والقومية الحية والمتفتحة للتغيير و التجديد, تحول بسرعة إلي رمز للانحطاط والفساد. وبقدر ما كانت تقنيات الحزب الواحد تشير إلي الفاعلية والإنجاز أصبحت تركز إلي العنف المفتقر إلي أي معني. وإلي اغتصاب السلطة, ورفض المشاركة والتداول الطبيعي لها مع بقية أبناء الشعب.
وتجسد هذا التحول في التوجيهات الاجتماعية العميقة في تغيير عام في المناخ العقائدي العربي منذ نهاية السبعينيات. وقد بدأت الردة علي الفكر الشمولي تتخذ طابعا أكثر عنفا وقوة منذ بداية الثمانينيات التي شهدت عودة قوية لقيم الفكر الديمقراطي عبرت عنها الكتابات والندوات واللقاءات السياسية, كما جسدتها الأزمة العميقة والقاتلة التي بدأت تعيشها الأحزاب السياسية, عموما, وأحزاب اليسار, خصوصاً. ولن يتأخر الواقع الاجتماعي عن التعبير عن هذا التحول العميق في الوعي العربي السياسي العام. فبعد سلسلة من الانتفاضات الشعبية التي كانت بمثابة الردود العفوية علي الأزمة الاقتصادية وتفاقم سوء الأحوالالمعيشية, أخذت الفكرة الديمقراطية تفرض نفسها من جديد علي الرأي العام الرسمي و الشعبي , وكان من نتيجة تفاعل النقلة الفكرية الجديدة مع حركات الاحتجاج والشعبي , وكان من نتيجة تفاعل النقلة الفكرية الجديدة مع حركات الاحتجاج الاجتماعية والدينية أن شهد الوطن العربي أولي حلقات انكسار النظام المطلق , ودخول العرب عصر الانتقال نحو الديمقراطية .
ولم يرتبط صعود مطالب الديمقراطية والتعددية في المجتمع العربي, كما هو شائع اليوم, بتفجر ما يمكن أن نسميه, بحق, ثورة الديمقراطية في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتي, ولكنه أرتبط, كما هي الحال في هذه المنطقة الشيوعية التي عاشت وضعيات مشابهة, بإخفاق مماثل للسياسات والنخب السابقة, ولم تتأخر المجتمعات العربية عن بقية بلدان العالم الثالث في حركة نمو الوعي الديمقراطي والتغييري, علي الرغم من الظروف الخاصة والصعبة التي لا تزال تعيشها علي صعيد الأمن القومي, وترتيب التوازنات الاقليمية المعقدة. وهكذا كانت مصر سابقة في الخروج, من نظام الحزب الواحد, علي الرغم من الظروف المأسوية التي رافقت هذا الخروج سواء في ما يتعلق بالسياسة القومية أو بالسياسات الاجتماعية والاقتصادية الداخلية, وقد تبعها السودان وتونس والجزائر.
وليس المقصود من ذلك التقليل من قيمة التحولات الراهنة ووزنها في الكتلة الشرقية وتأثيراتها العميقة في مستقبل التحولات السياسية والاجتماعية في الوطن العربي , وإنما تحديد الحوافز العميقة والحقيقية لمطالب التغيير الديمقراطي في المجتمع العربي قبل الحديث عن التأثيرات الخارجية والتفاعلات الدولية التي قد تكون حاسمة أحيانا في تقرير مصير التحولات الداخلية .
و الواقع أن البحث عن هذه الحوافز العميقة هو الذي يستطيع أن يحدد لنا ما الذي تعنيه الفئات والشعوب الشعارات التي تطرحها في هذه الحقبة أو تلك. فعلي عكس ما توحي به الملاحظة السطحية, لا يعني الحديث عن الديمقراطية بالضرورة أن هناك مفهوما مشتركا لما تعنيه عند جميع الناس القائلين بها, ولا أن هناك إجماعا واتفاقا علي برنامج محدد للإصلاحات أو التغييرات التي يمكن أن نطلق عليها أسم " ديمقراطية ", فقد تشير الكلمة إلي مضامين مختلفة وتعكس توجهات وتطلعات متباينة.
الديمقراطية وحقوق الإنسان في الوطن العربي : مشاكل الانتقال وصعوبات المشاركة
*-*-*-*-*-*
أولا: في أصل الحديث العربي عن التعددية وحقوق الإنسان
1 تدعيم الشرعية:
إن أصل الحديث عن الديمقراطية ووجودها, في المجتمعات العربية مثل ما هو الحال في المجتمعات كافة, هو تأسيس الشرعية. وتعني الشرعية الديمقراطية انبثاق السلطة عن إدارة الجماعة الوطنية عامة, باعتبار أن ذلك هو القاعدة الشكلية لتأمين جوهر هوالأهم, أعني اتفاق قيم ومعايير السلطة وممارستها مع قيم ومعايير المجتمعات التي تخضعلها . وبهذا المعني فأن الشرعية تؤلف الضمانة كي لا تكون السلطة غريبة علي المجتمع أو خارجة عنه في أهدافها وغاياتها وسبل ممارستها والقيم التي تدافع عنها, أي ، أخيراً , هي ضمانة الانسجام والتوافق بينهما , ومن ثم مصدر الاستمرارية والتداول السلميللحكم , ومصدر وجود الدولة .
وقد كان تعميم هذا النمط الحديث من الشرعية السياسية السمة البارزة للعصر الراهن في العالم أجمع, وهو أكبر ثورة شهدها عالم السياسة الإنساني منذ أن تكونت الدول وقامت الجماعات الوطنية والمدنية. وفي الوطن العربي, كما في غيره من البلدان, دخلت مفاهيم التعدادية ونماذجها عن طريق التعميم والتعلم والتأثر الطبيعي للمجتمعات بالمجتمعات السابقة في هذا الميدان. وكانت النماذج الأولي لممارسة الديمقراطية في الأقطار العربية متأثرة إلي حد كبير بالعقيدة الليبرالية الكلاسيكية من جهة, وبالتوازنات التي أقامتها السلطات الاستعمارية والمباشرة أو غير المباشرة, من جهة ثانية, ولضيق أفق هذه النظم البرلمانية والتعددية , السياسي والاجتماعي , وغياب الأرضية الاجتماعية والفكرية القوية لها , تحولت بسرعة إلي واجهات شكلية تضم نخبة شبه أرستقراطية تتداول السلطة بين أعضائها ولا تتيح – إلا نادراً – توسيع قاعدة الممارسة السياسية الشعبية . لقد ساهمت هذه النسخة الأولي من الديمقراطية بمعني التعددية البسيط , في تمديد أجل البنيان السياسي العربي التقليدي الذي تشكل الوجاهة المحلية قاعدته الرئيسية .
ولهذا السبب ومع نمو الطبقات الوسطي بسرعة بعد الاستقلال, سواء بسبب تطور التعليم السريع أو بسبب تطور التوظيف العمومي والمؤسسات العسكرية والمدنية التابعة للدولة, وما ولده توزيع المداخيل الجديدة من إحياء للسوق التجارية, المحلية وشبة الصناعية أو الحرفية, لم تستطيع هذه الديمقراطية الأولي أن تقاوم طويلا, تهاوت بسرعة بالغة تحت ضربات القوي الاجتماعية الجديدة التي سلمت دون تردد – مقاليد أمورها – للجيش والنخبة العسكرية عموماً, ونشأت علي أثر ذلك أنظمة الحزب الواحد الصريحة في بعض الأقطار, والمغطاة بواجهة شكلية امتصت حتى مكسب التعددية الفعلي , في الأقطار الأخرى التي لم تتأثر بقوة بالمد التقدمي والثوري الذي طبع العقود التالية للاستقلال . ولم يكن هذا التطور الجديد الذي اتخذ طابع إعادة البناء السياسي علي أسس جديدة تطوراً غيرجماهيري أو معاديا للجماهير, كما نميل إلي التصور اليوم, ولكنه كان بالعكس مصدر شعبية كبيرة للنظم السياسية الجديدة. لقد سقطت النماذج التعددية الليبرالية في الوطن العربي , وفي كل مكان فيه دون استثناء , في موجة عارمة من التأييد والفرحة والأمل بانفتاح عصر جديد .
وبدت هذه التعددية للأغلبية الساحقة من النخبة الاجتماعية لذلك العهد, وكانت بحق, قاعدة لإعادة إنتاج سلطة محافظة من الناحية الاجتماعية, عصبوية من الناحية السياسية, معتمدة علي زعامات الأحياء والقري والعشائر والوجاهات المتنافسة والمتصارعة والمنطوية في رؤيتها السياسية وممارستها علي حقول نفوذها المحلية دون أدني نظرة وطنية شمولية, وعاجزة كلياً تجاه الخارج بل مرتبطة بالنفوذ الأجنبي. و ظهرت, في المقابل, فكرة النظام الواحد والحركة الثورية التي لا تحترم التعددية في عيون عموم الشعب, علي أنها الوسيلة لكسر هذه الحلقة المفرغة المعوقة للتقدم والتطور السياسي والاجتماعي والاقتصادي والقومي. وما ساعد علي ذلك ارتباط هذه الصورة نفسها بتجارب البلدان الاشتراكية والشيوعية التي كانت تبدو أنموذجا حيا لنجاح تجربة التنمية عن طريق الدولة وخارج أطر البناء التعددي التقليدي.
لكن انهيار المشروع التقدمي العربي, في مرحلة ثانية, بسبب عدم قدرته عليتوفير وسائل الحماية الخارجية ما فيه الكفاية, وفشل الإقلاع الصناعي, وتعثر الاندماج القومي, وما رافق ذلك بالضرورة من تراجع في بنية السلطة الوطنية وتقاليدها, أدي إلي إفقاد النظام السياسي الواحدي الذي ارتبطت به صدقيته وشرعية وجودة. فقد تغيرت نظرة الناس إليه وإلي وسائل تنظيم السلطة والحكم. وبقدر ما كان هذا النظام يعبر عند الغالبية العظمي عن الإدارة الشابة الوطنية والقومية الحية والمتفتحة للتغيير و التجديد, تحول بسرعة إلي رمز للانحطاط والفساد. وبقدر ما كانت تقنيات الحزب الواحد تشير إلي الفاعلية والإنجاز أصبحت تركز إلي العنف المفتقر إلي أي معني. وإلي اغتصاب السلطة, ورفض المشاركة والتداول الطبيعي لها مع بقية أبناء الشعب.
وتجسد هذا التحول في التوجيهات الاجتماعية العميقة في تغيير عام في المناخ العقائدي العربي منذ نهاية السبعينيات. وقد بدأت الردة علي الفكر الشمولي تتخذ طابعا أكثر عنفا وقوة منذ بداية الثمانينيات التي شهدت عودة قوية لقيم الفكر الديمقراطي عبرت عنها الكتابات والندوات واللقاءات السياسية, كما جسدتها الأزمة العميقة والقاتلة التي بدأت تعيشها الأحزاب السياسية, عموما, وأحزاب اليسار, خصوصاً. ولن يتأخر الواقع الاجتماعي عن التعبير عن هذا التحول العميق في الوعي العربي السياسي العام. فبعد سلسلة من الانتفاضات الشعبية التي كانت بمثابة الردود العفوية علي الأزمة الاقتصادية وتفاقم سوء الأحوالالمعيشية, أخذت الفكرة الديمقراطية تفرض نفسها من جديد علي الرأي العام الرسمي و الشعبي , وكان من نتيجة تفاعل النقلة الفكرية الجديدة مع حركات الاحتجاج والشعبي , وكان من نتيجة تفاعل النقلة الفكرية الجديدة مع حركات الاحتجاج الاجتماعية والدينية أن شهد الوطن العربي أولي حلقات انكسار النظام المطلق , ودخول العرب عصر الانتقال نحو الديمقراطية .
ولم يرتبط صعود مطالب الديمقراطية والتعددية في المجتمع العربي, كما هو شائع اليوم, بتفجر ما يمكن أن نسميه, بحق, ثورة الديمقراطية في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتي, ولكنه أرتبط, كما هي الحال في هذه المنطقة الشيوعية التي عاشت وضعيات مشابهة, بإخفاق مماثل للسياسات والنخب السابقة, ولم تتأخر المجتمعات العربية عن بقية بلدان العالم الثالث في حركة نمو الوعي الديمقراطي والتغييري, علي الرغم من الظروف الخاصة والصعبة التي لا تزال تعيشها علي صعيد الأمن القومي, وترتيب التوازنات الاقليمية المعقدة. وهكذا كانت مصر سابقة في الخروج, من نظام الحزب الواحد, علي الرغم من الظروف المأسوية التي رافقت هذا الخروج سواء في ما يتعلق بالسياسة القومية أو بالسياسات الاجتماعية والاقتصادية الداخلية, وقد تبعها السودان وتونس والجزائر.
وليس المقصود من ذلك التقليل من قيمة التحولات الراهنة ووزنها في الكتلة الشرقية وتأثيراتها العميقة في مستقبل التحولات السياسية والاجتماعية في الوطن العربي , وإنما تحديد الحوافز العميقة والحقيقية لمطالب التغيير الديمقراطي في المجتمع العربي قبل الحديث عن التأثيرات الخارجية والتفاعلات الدولية التي قد تكون حاسمة أحيانا في تقرير مصير التحولات الداخلية .
و الواقع أن البحث عن هذه الحوافز العميقة هو الذي يستطيع أن يحدد لنا ما الذي تعنيه الفئات والشعوب الشعارات التي تطرحها في هذه الحقبة أو تلك. فعلي عكس ما توحي به الملاحظة السطحية, لا يعني الحديث عن الديمقراطية بالضرورة أن هناك مفهوما مشتركا لما تعنيه عند جميع الناس القائلين بها, ولا أن هناك إجماعا واتفاقا علي برنامج محدد للإصلاحات أو التغييرات التي يمكن أن نطلق عليها أسم " ديمقراطية ", فقد تشير الكلمة إلي مضامين مختلفة وتعكس توجهات وتطلعات متباينة.
رد: حقوق الإنسان العربي
ثانيا: مفهوم الديمقراطية العربية وحقوق الإنسان
2 المشاركة:
بصرف النظر عما يطلقه الناس من أسماء وشعارات حول طموحاتهم ومطالبهم, يظهر تحليل المضمون الفعلي لهذه المطالب وللخطاب الذي يعلن عنها, أن ما يقصده معظم العرب عند الحديث عن الديمقراطية يتركز في ما ينبغي أن ندرجه ضمن مطالب المشاركة. والمشاركة السياسية تعني وتفترض – كشرط لا محيد عنه – التعددية التي تشكل الإطار الطبيعي لتكوين السوق السياسية وتداول السلطة بحرية نسبية بين مختلف أطراف النخبة الاجتماعية وأنواعها. و لا تعني المشاركة السياسية, بالضرورة, حتمية تغيير النظام السياسي أو القيم السائدة في الدولة, إنما تعني إعادة توزيع السلطة علي مواقع النفوذ المعنوي والسيطرة الفعلية في المجتمع. فبقدر ما فقدت النخبة الحاكمة اليوم, في هذا القطر أو ذلك التأييد, والنفوذ والهيمنة السياسية, أصبحت تتعرض لمنافسة الأطراف الأخرى التي تستطيع أن تثمر في مواجه النخبة القائمة ما تحظى به من تأييد ودعم معنويين وسياسيين اجتماعيين. ومن هذه الناحية فالمشاركة تتعلق بإعادة التفكير في تنظيم نشاط النخبة الاجتماعية وترتيبه, ومصيرها بالدرجة الأولي, وإعادة ترتيب المواقع والهيمنات في ما بين أطرافها, وهي لا تفترض تبدل طبيعة الحاجات العميقة والأساسية للمجتمع و تراتبها ككل , لدي النخبة العامة معا , وهذه المطالب لم تتبدل بالفعل منذ أكثر من قرن , وهي التي تشكل تأمينها في كل المجتمعات الشرط الأول للدخول في عصر الديمقراطية بما هو عصر إنتاج الحرية علي نطاق واسع وجماهيري . إنها المطالب الجوهرية ة الأساسية للحياة, أعني: الأمن الفردي والقومي, تلبية الحاجات المادية الأساسية من ملبس ومسكن و مأكل, وتحقيق الحد الأدني من التواصل والسعادة الأرضية.
ولا يثير هذا المطلب المتعلق بالمشاركة السياسية للنخبة ( التعددية ) إلا تأييدا نسبيا في المواقع عند فئات الرأي العام العربي الواسعة. وهو تأييد ينبع من المراهنة علي أن يكون توسيع قاعدة السلطة مناسبة لتحسين طرق الحكم والإدارة, ومن ثم تطوير القدرة الاجتماعية علي تلبية المطالب الشعبية العامة والمادية الطابع بشكل كبير, ويمكن القول إن ما يثير الجمهور الواسع بشكل أكبر في مفهوم الديمقراطية اليوم هو بالذات ما تسعي فكرة حقوق الإنسان إلي نشره, أي تنمية المواطنية والاعتراف بها كمنبع لحقوق ثابتة للفرد, حصل التراجع عنها بسبب الظروف الاستبدادية. والاعتراف بالحقوق هنا لا يعني أكثر من التخفيف من شدة التسلط بما هو نفي لهذه الحقوق, ولا يطمح إلي أن يكون مطالبة بمشاركة إيجابية في بناء الإرادة العامة. إن ما يطلبه الشعب ويفهمه من " حقوق الإنسان في الوطن العربي " هو ما يمكن أن نسميه برنامج الحد الأدنى: أي الكرامة الذاتية, وإلغاء التميز بين المواطنين علي أساس العقيدة والطائفة والعشيرة, أي المعاملة بالمثل, وضمان الأمن الشخصي والعائلي في مواجهة الأجهزة السرية.
والواقع أننا لو تأملنا بعمق برنامج حقوق الإنسان الأصيل كما هو لوجدنا أنه, علي عكس ما يظهر لأول وهلة, أصعب منالا وأكثر تطلبا وخطرا من مطلب المشاركة السياسية. ذلك أن حقوق الإنسان بالمعني الذي تستخدم به اليوم, وفي المستويات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية و السياسية, لا تعني أقل من تعميم الحضارة الراهنة, بكل قيمها المادية و المعنوية, علي جميع الأفراد فهي تضم المشاركة في السلطة وحرية التعبير وحق العمل والتعليم والثقافة والأمن والاحترام والكرامة للجميع من دون استثناء. وهذا البرنامج أوسع وأكبر بكثير – من دون شك – من برنامج الديمقراطية بمعني التعددية, والذي لا يحتاج إلا لفتح الباب أمام أطراف النخبة المعارضة كي تشارك في الحكم مباشرة أو عن طريق المعارضة. فتطبيق التعددية لا يحتاج إلي تنفيذ برنامج حقوق الإنسان كله ولا إلي تغيير جوهري في بنية النظام الاجتماعي أو في الخريطة الكبرى لتوزيع الدخول عموما بين النخبة الاجتماعية والجمهور الواسع. ولذلك لم تحصل لدي هذا الجمهور أوهام كبيرة حول إمكانية تنفيذ برنامج حقوق الإنسان, والنظر إليه منذ البداية علي أنه من جملة أدوات الشرعية التي تستخدمها النخبة الاجتماعية الجديدة , كما تستخدم الوعود , لرسم أفق المشروع الاجتماعي الذي تريد أن تعمل في ظله وله , وتكسب تأييد الجمهور علي أساسه .
و الواقع أن الجمهور لا يعرف ما هو النظام السياسي الديمقراطي, ولم يختبره, وليس واثقا من أن لدية القدرة علي التغيير السياسي الفعلي, أو النفوذ إلي سياسة دول أصبحت أكثر من أي حقبة سابقة تصنع بالتوافق بين النخب المحلية والنظام الدولي. إن التعددية التي تعني المشاركة في القرار والسلطة من قبل النخبة , تعني لدي الجمهور الواسع المشاركة في استهلاك المواطنية التي تصنعها أو يطمح أن تعيد التعددية صنعها . وهذه المشاركة بوجهيها السلبي والايجابي , التعددي والحقوق – إنساني , هي البرنامج العربي الراهن والفعلي للديمقراطية , أو ما نطلق عليه اسم " الديمقراطية " .
و هذا يعني أن الديمقراطية كما هي مطروحة اليوم علي النظم الحاكمة ليست مستحيلة التطبيق في الواقع العربي الراهن ومن وجهة نظر الظروف الموضوعية. فليس من الصعب إشراك الأطراف السياسية المعارضة, بما في ذلك الدينية, وفي السلطة, ولا يفرض هذا علي الفئات الحاكمة تنازلات كبيرة يستحيل القيام بها, بل إن من الممكن اعتبار هذه المشاركة ثمنا بخساً تدفعه النظم الراهنة لكسب تأييد بقية أطراف النخبة وعزلها عن الجمهور وتوحيدها في وجه المخاطر الكبيرة التي تقبل عليها بسبب الأزمة الاقتصادية الطاحنة والمستمرة, ولا تمثل هذه المشاركة أي نوع من التهديد لمواقع النخبة الحاكمة بالفعل, وهو ما دلت عليه جميع التحولات التي حصلت علي طريق التعددية العربية, والتي بدل أن تقود إلي إزالة النخب الحاكمة ساهمت, عن طريق ما أحدثته من توسيع لقاعدة الحكم, في تدعيم نظمها ورفع درجة عقلانيتها الداخلية. كما أن المشاركة السلبية للجمهور الواسع من خلال حقوق الإنسان في الانتماء إلي المواطنية شكلية , أي التخفيف من الظلم ووقف التسلط وتأكيد مبدأ المعاملة بالمثل , ليست من الأمور المكلفة كثيرا بالنسبة إلي الفئات الحاكمة , مهما كانت طبيعتها . فما هو السبب الذي يعوق التقدم السريع علي طريق هذه الديمقراطية إذا ؟
ثالثاً: التحول الديمقراطي : المصاعب والعقبات
هناك العديد من الفرضيات التي تحاول أن تفسر صعوبة هذا الانتقال نحو هذه الديمقراطية في المجتمع العربي , فمن هذه الفرضيات ما يقوم علي الإشارة إلي رسوخ التقاليد الاستبدادية في الثقافة العربية , ومنها ما يشير إلي البنية البطركية أو الأبوية للسلطة في المجتمع العربي , ومنها ما يشدد علي النواحي التاريخية النفسانية والسلوك العام تجاه السلطة والخوف من الفتنة , ومنها ما يؤكد علي ضعف التراث والمفهوم الديمقراطي في الوعي العربي الحديث , ومنها ما يركز , علي العكس , علي التنافس الطبقي أو الاجتماعي أو الطائفي بين أطراف النخبة علي احتكار الثروة , ومنها أخيرا ما يرجع الأمر إلي بني التبعية والتخلف الاقتصادي عامة .
والواقع أن المجتمعات العربية ليست جميعاً علي المستوي نفسه من التقدم علي طريق التعددية اليوم. فمنها من تبني, علمياً, كما في الجزائر, مفهوم التعددية في صورتها الكاملة, ومنها من حاول أن يطبق التعددية مع بعض التضييق علي الحريات العامة, كما في تونس والأردن ومصر والمغرب واليمن, ومنها من لا يزال ينظر إلي التعددية كخطوة ممكنة تحتاج إلي إجراءات وقائية مسبقة حتي لا تتحول إلي وسيلة لنقل السلطة إلي فرقاء آخرين, مثل الكويت ربما بعض دول الخليج الأخري والسودان والصومال, ومنها من لا يزال يعتبر أي حديث في التعددية نوع من المساس بشرعية السلطة القائمة أو من التحدي المباشر والعنيف لها مثل العربية السعودية.
وهذا يعني أن المجتمعات والدول العربية ليست مغلقة علي البرنامج الديمقراطي الراهن, أي علي المشاركة وحقوق الإنسان, أكثر من غيرها من الدول النامية, وأن المسيرة التعددية ليست غائبة ولا مهددة, بالفعل, بالتوقف نتيجة رفض بعض النظم أو خوفها من التخلي عن احتكار السلطة, بل أن هناك ما يدعونا إلي القول آن الحقبة المقبلة من التحول السياسي العربي ستبقي من دون شك, حقبة التحول نحو التعددية, بسرعة هنا, وببطء هناك و لكن بالتأكيد, لأن هذا التحول هو الوحيد الذي يمكن أن يقدم للدول العربية المسحة اللازمة والوحيدة الممكنة من الشرعية. والهدف أن نقول إنه ينبغي ألا نتحدث, أو أنه ليس هناك مأزق للتعددية في الوطن العربي.
و لا بد من الإشارة أيضا إلي أن رفض بعض الأنظمة برنامج التعددية وبرنامج حقوق الإنسان لا يعني بالضرورة رفض المجتمعات لهما, بل ربما كان طلبهما في هذه المجتمعات أقوي مما هو عليه الحال عند غيرهما بسبب هذا الرفض ذاته. وليس غياب التظاهر من أجل ذلك دليلا علي غياب المطالب, ولا عن رسوخ قيم الاستبداد بقدر ما هو انعكاس للخوف من عواقب الحركة العفوية, ومن ثم ترجمة لضعف الهياكل السياسية المعارضة. ويقتضي ذلك ألا نعطي أهمية بالغة في تفسيرنا لبطء التحول نحو التعددية ورسوخ حقوق الإنسان في الوطن العربي للعوامل التراثية النفسية أو الثقافية أو الدينية أو التاريخية, ونحن نعتقد – في كل الأحوال – أن المطالب تتجدد ولا تولد بالضرورة من ثقافة الماضي مهما كانت, ولكنها تعبر عن آمال وحاجات الحاضر والمستقبل. وفي هذا المجال ليس للمجتمع العربي لا ميزة استثنائية ولا سلبية من غيره من المجتمعات النامية التي تعيش المشاكل نفسها وتنمي الآمال ذاتها.
وإذا أردنا أن نحدد الموضوع المطروح بصورة أفضل, فسوف نجد أن المشكلة الأساسية ليست في غياب التحول نحو التعددية بشكل عام في الوطن العربي, ولكن – أولاً – في بطء هذا التحول وربما تأخره بالمقابلة ببعض البلدان الآسيوية والأمريكية اللاتينية والأوروبية, ثانياً, في النوعية المترددة والضعيفة نسبيا للنظم الجديدة, ثالثاً، لهشاشة المسيرة ذاتها ووهن الأسس التي تقوم عليها وقوة احتمالات التراجع عنها, كما بينت ذلك التجربة السودانية. و كل هذه المظاهر توحي بعدم الإنجاز أو ضعفه في هذا المجال, وتخلق في الوعي العربي الراهن نوعا من الإحباط في موضوع الديمقراطية.فما هي أسباب هذا الضعف والتهافت في المسيرة الديمقراطية العربية ؟ وما هي وسائل معالجتها في المستقبل ؟
يمكننا أن نضع هذه الأسباب في اعتقادي في ثلاث مجموعات رئيسية:
جغرا – سياسية, اجتماعية – سياسية, اقتصادية وعقائدية.
2 المشاركة:
بصرف النظر عما يطلقه الناس من أسماء وشعارات حول طموحاتهم ومطالبهم, يظهر تحليل المضمون الفعلي لهذه المطالب وللخطاب الذي يعلن عنها, أن ما يقصده معظم العرب عند الحديث عن الديمقراطية يتركز في ما ينبغي أن ندرجه ضمن مطالب المشاركة. والمشاركة السياسية تعني وتفترض – كشرط لا محيد عنه – التعددية التي تشكل الإطار الطبيعي لتكوين السوق السياسية وتداول السلطة بحرية نسبية بين مختلف أطراف النخبة الاجتماعية وأنواعها. و لا تعني المشاركة السياسية, بالضرورة, حتمية تغيير النظام السياسي أو القيم السائدة في الدولة, إنما تعني إعادة توزيع السلطة علي مواقع النفوذ المعنوي والسيطرة الفعلية في المجتمع. فبقدر ما فقدت النخبة الحاكمة اليوم, في هذا القطر أو ذلك التأييد, والنفوذ والهيمنة السياسية, أصبحت تتعرض لمنافسة الأطراف الأخرى التي تستطيع أن تثمر في مواجه النخبة القائمة ما تحظى به من تأييد ودعم معنويين وسياسيين اجتماعيين. ومن هذه الناحية فالمشاركة تتعلق بإعادة التفكير في تنظيم نشاط النخبة الاجتماعية وترتيبه, ومصيرها بالدرجة الأولي, وإعادة ترتيب المواقع والهيمنات في ما بين أطرافها, وهي لا تفترض تبدل طبيعة الحاجات العميقة والأساسية للمجتمع و تراتبها ككل , لدي النخبة العامة معا , وهذه المطالب لم تتبدل بالفعل منذ أكثر من قرن , وهي التي تشكل تأمينها في كل المجتمعات الشرط الأول للدخول في عصر الديمقراطية بما هو عصر إنتاج الحرية علي نطاق واسع وجماهيري . إنها المطالب الجوهرية ة الأساسية للحياة, أعني: الأمن الفردي والقومي, تلبية الحاجات المادية الأساسية من ملبس ومسكن و مأكل, وتحقيق الحد الأدني من التواصل والسعادة الأرضية.
ولا يثير هذا المطلب المتعلق بالمشاركة السياسية للنخبة ( التعددية ) إلا تأييدا نسبيا في المواقع عند فئات الرأي العام العربي الواسعة. وهو تأييد ينبع من المراهنة علي أن يكون توسيع قاعدة السلطة مناسبة لتحسين طرق الحكم والإدارة, ومن ثم تطوير القدرة الاجتماعية علي تلبية المطالب الشعبية العامة والمادية الطابع بشكل كبير, ويمكن القول إن ما يثير الجمهور الواسع بشكل أكبر في مفهوم الديمقراطية اليوم هو بالذات ما تسعي فكرة حقوق الإنسان إلي نشره, أي تنمية المواطنية والاعتراف بها كمنبع لحقوق ثابتة للفرد, حصل التراجع عنها بسبب الظروف الاستبدادية. والاعتراف بالحقوق هنا لا يعني أكثر من التخفيف من شدة التسلط بما هو نفي لهذه الحقوق, ولا يطمح إلي أن يكون مطالبة بمشاركة إيجابية في بناء الإرادة العامة. إن ما يطلبه الشعب ويفهمه من " حقوق الإنسان في الوطن العربي " هو ما يمكن أن نسميه برنامج الحد الأدنى: أي الكرامة الذاتية, وإلغاء التميز بين المواطنين علي أساس العقيدة والطائفة والعشيرة, أي المعاملة بالمثل, وضمان الأمن الشخصي والعائلي في مواجهة الأجهزة السرية.
والواقع أننا لو تأملنا بعمق برنامج حقوق الإنسان الأصيل كما هو لوجدنا أنه, علي عكس ما يظهر لأول وهلة, أصعب منالا وأكثر تطلبا وخطرا من مطلب المشاركة السياسية. ذلك أن حقوق الإنسان بالمعني الذي تستخدم به اليوم, وفي المستويات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية و السياسية, لا تعني أقل من تعميم الحضارة الراهنة, بكل قيمها المادية و المعنوية, علي جميع الأفراد فهي تضم المشاركة في السلطة وحرية التعبير وحق العمل والتعليم والثقافة والأمن والاحترام والكرامة للجميع من دون استثناء. وهذا البرنامج أوسع وأكبر بكثير – من دون شك – من برنامج الديمقراطية بمعني التعددية, والذي لا يحتاج إلا لفتح الباب أمام أطراف النخبة المعارضة كي تشارك في الحكم مباشرة أو عن طريق المعارضة. فتطبيق التعددية لا يحتاج إلي تنفيذ برنامج حقوق الإنسان كله ولا إلي تغيير جوهري في بنية النظام الاجتماعي أو في الخريطة الكبرى لتوزيع الدخول عموما بين النخبة الاجتماعية والجمهور الواسع. ولذلك لم تحصل لدي هذا الجمهور أوهام كبيرة حول إمكانية تنفيذ برنامج حقوق الإنسان, والنظر إليه منذ البداية علي أنه من جملة أدوات الشرعية التي تستخدمها النخبة الاجتماعية الجديدة , كما تستخدم الوعود , لرسم أفق المشروع الاجتماعي الذي تريد أن تعمل في ظله وله , وتكسب تأييد الجمهور علي أساسه .
و الواقع أن الجمهور لا يعرف ما هو النظام السياسي الديمقراطي, ولم يختبره, وليس واثقا من أن لدية القدرة علي التغيير السياسي الفعلي, أو النفوذ إلي سياسة دول أصبحت أكثر من أي حقبة سابقة تصنع بالتوافق بين النخب المحلية والنظام الدولي. إن التعددية التي تعني المشاركة في القرار والسلطة من قبل النخبة , تعني لدي الجمهور الواسع المشاركة في استهلاك المواطنية التي تصنعها أو يطمح أن تعيد التعددية صنعها . وهذه المشاركة بوجهيها السلبي والايجابي , التعددي والحقوق – إنساني , هي البرنامج العربي الراهن والفعلي للديمقراطية , أو ما نطلق عليه اسم " الديمقراطية " .
و هذا يعني أن الديمقراطية كما هي مطروحة اليوم علي النظم الحاكمة ليست مستحيلة التطبيق في الواقع العربي الراهن ومن وجهة نظر الظروف الموضوعية. فليس من الصعب إشراك الأطراف السياسية المعارضة, بما في ذلك الدينية, وفي السلطة, ولا يفرض هذا علي الفئات الحاكمة تنازلات كبيرة يستحيل القيام بها, بل إن من الممكن اعتبار هذه المشاركة ثمنا بخساً تدفعه النظم الراهنة لكسب تأييد بقية أطراف النخبة وعزلها عن الجمهور وتوحيدها في وجه المخاطر الكبيرة التي تقبل عليها بسبب الأزمة الاقتصادية الطاحنة والمستمرة, ولا تمثل هذه المشاركة أي نوع من التهديد لمواقع النخبة الحاكمة بالفعل, وهو ما دلت عليه جميع التحولات التي حصلت علي طريق التعددية العربية, والتي بدل أن تقود إلي إزالة النخب الحاكمة ساهمت, عن طريق ما أحدثته من توسيع لقاعدة الحكم, في تدعيم نظمها ورفع درجة عقلانيتها الداخلية. كما أن المشاركة السلبية للجمهور الواسع من خلال حقوق الإنسان في الانتماء إلي المواطنية شكلية , أي التخفيف من الظلم ووقف التسلط وتأكيد مبدأ المعاملة بالمثل , ليست من الأمور المكلفة كثيرا بالنسبة إلي الفئات الحاكمة , مهما كانت طبيعتها . فما هو السبب الذي يعوق التقدم السريع علي طريق هذه الديمقراطية إذا ؟
ثالثاً: التحول الديمقراطي : المصاعب والعقبات
هناك العديد من الفرضيات التي تحاول أن تفسر صعوبة هذا الانتقال نحو هذه الديمقراطية في المجتمع العربي , فمن هذه الفرضيات ما يقوم علي الإشارة إلي رسوخ التقاليد الاستبدادية في الثقافة العربية , ومنها ما يشير إلي البنية البطركية أو الأبوية للسلطة في المجتمع العربي , ومنها ما يشدد علي النواحي التاريخية النفسانية والسلوك العام تجاه السلطة والخوف من الفتنة , ومنها ما يؤكد علي ضعف التراث والمفهوم الديمقراطي في الوعي العربي الحديث , ومنها ما يركز , علي العكس , علي التنافس الطبقي أو الاجتماعي أو الطائفي بين أطراف النخبة علي احتكار الثروة , ومنها أخيرا ما يرجع الأمر إلي بني التبعية والتخلف الاقتصادي عامة .
والواقع أن المجتمعات العربية ليست جميعاً علي المستوي نفسه من التقدم علي طريق التعددية اليوم. فمنها من تبني, علمياً, كما في الجزائر, مفهوم التعددية في صورتها الكاملة, ومنها من حاول أن يطبق التعددية مع بعض التضييق علي الحريات العامة, كما في تونس والأردن ومصر والمغرب واليمن, ومنها من لا يزال ينظر إلي التعددية كخطوة ممكنة تحتاج إلي إجراءات وقائية مسبقة حتي لا تتحول إلي وسيلة لنقل السلطة إلي فرقاء آخرين, مثل الكويت ربما بعض دول الخليج الأخري والسودان والصومال, ومنها من لا يزال يعتبر أي حديث في التعددية نوع من المساس بشرعية السلطة القائمة أو من التحدي المباشر والعنيف لها مثل العربية السعودية.
وهذا يعني أن المجتمعات والدول العربية ليست مغلقة علي البرنامج الديمقراطي الراهن, أي علي المشاركة وحقوق الإنسان, أكثر من غيرها من الدول النامية, وأن المسيرة التعددية ليست غائبة ولا مهددة, بالفعل, بالتوقف نتيجة رفض بعض النظم أو خوفها من التخلي عن احتكار السلطة, بل أن هناك ما يدعونا إلي القول آن الحقبة المقبلة من التحول السياسي العربي ستبقي من دون شك, حقبة التحول نحو التعددية, بسرعة هنا, وببطء هناك و لكن بالتأكيد, لأن هذا التحول هو الوحيد الذي يمكن أن يقدم للدول العربية المسحة اللازمة والوحيدة الممكنة من الشرعية. والهدف أن نقول إنه ينبغي ألا نتحدث, أو أنه ليس هناك مأزق للتعددية في الوطن العربي.
و لا بد من الإشارة أيضا إلي أن رفض بعض الأنظمة برنامج التعددية وبرنامج حقوق الإنسان لا يعني بالضرورة رفض المجتمعات لهما, بل ربما كان طلبهما في هذه المجتمعات أقوي مما هو عليه الحال عند غيرهما بسبب هذا الرفض ذاته. وليس غياب التظاهر من أجل ذلك دليلا علي غياب المطالب, ولا عن رسوخ قيم الاستبداد بقدر ما هو انعكاس للخوف من عواقب الحركة العفوية, ومن ثم ترجمة لضعف الهياكل السياسية المعارضة. ويقتضي ذلك ألا نعطي أهمية بالغة في تفسيرنا لبطء التحول نحو التعددية ورسوخ حقوق الإنسان في الوطن العربي للعوامل التراثية النفسية أو الثقافية أو الدينية أو التاريخية, ونحن نعتقد – في كل الأحوال – أن المطالب تتجدد ولا تولد بالضرورة من ثقافة الماضي مهما كانت, ولكنها تعبر عن آمال وحاجات الحاضر والمستقبل. وفي هذا المجال ليس للمجتمع العربي لا ميزة استثنائية ولا سلبية من غيره من المجتمعات النامية التي تعيش المشاكل نفسها وتنمي الآمال ذاتها.
وإذا أردنا أن نحدد الموضوع المطروح بصورة أفضل, فسوف نجد أن المشكلة الأساسية ليست في غياب التحول نحو التعددية بشكل عام في الوطن العربي, ولكن – أولاً – في بطء هذا التحول وربما تأخره بالمقابلة ببعض البلدان الآسيوية والأمريكية اللاتينية والأوروبية, ثانياً, في النوعية المترددة والضعيفة نسبيا للنظم الجديدة, ثالثاً، لهشاشة المسيرة ذاتها ووهن الأسس التي تقوم عليها وقوة احتمالات التراجع عنها, كما بينت ذلك التجربة السودانية. و كل هذه المظاهر توحي بعدم الإنجاز أو ضعفه في هذا المجال, وتخلق في الوعي العربي الراهن نوعا من الإحباط في موضوع الديمقراطية.فما هي أسباب هذا الضعف والتهافت في المسيرة الديمقراطية العربية ؟ وما هي وسائل معالجتها في المستقبل ؟
يمكننا أن نضع هذه الأسباب في اعتقادي في ثلاث مجموعات رئيسية:
جغرا – سياسية, اجتماعية – سياسية, اقتصادية وعقائدية.
رد: حقوق الإنسان العربي
1 – هشاشة الدولة
لاشك في أن لموقع الوطن العربي الاستراتيجي وثرواته النفطية وإرثه الحضاري, ثلاثة عوامل كبري تجعل منه مركز استقطابات وضغوط خارجية وداخلية قوية. ومن الصعب علي الدول الصغيرة التي يكون منها اليوم أن تمتلك الأدوات الحقيقية , المادية والمعنوية , لمقاومة هذه الضغوط والتغلب عليها . وكما هو الأمر بالنسبة إلي الشخص الذي يحتل موقعا أكبر بكثير من إمكاناته, تعيش هذه الدول مع شعور عميق ودائم بالهشاشة وانعدام الأمن والقزمية, يدفعها في اتجاهات مختلفة ومتعارضة تقود جميعا إلي التشدد والانغلاق النابعين من الخوف علي المصير. أو ل هذه الاتجاهات التبعية والاعتماد علي الحماية الأجنبية التي تجر هذه الأخيرة إلي الدول المجاورة, وتولد توجسا وخوفا متزايدين علي الأمن الذاتي لدي كل دولة تجاه الدول الأخرى. وبقدر ما تنقص هذه التبعية من السيادة المحلية تجعل الحكومات تشعر بأنها أكثر حاجة إلي مواكبة طلبات الدول الحامية لها في التحولات والسياسات الداخلية من حاجتها إلي التفاهم مع رأيها العام أو الاعتماد علي موافقته لتأمين شرعيتها, بل أن زيادة اعتمادها علي الخارج في الوجود تجعلها تتجاهل مسألة شرعية السلطة العميقة والشكلية, كليا . ويتفاقم هذا الاتجاه نحو الاستهتار بالشرعية التي تشكل الديمقراطية الصورة الأكثر تعبيرا عنها, مع الاتجاه إلي المبالغة بأهمية القوة والقهر كوسيلة للبقاء. و تلقي هذه المبالغة تأكيدا جديدا لها في معادلة القوة الخارجية, والميل الطبيعي المرافق إلي التبعية لبناء وتطوير وتكبير الأجهزة العسكرية والقوية والضاربة.
والهدف أن نقول إنه في هذا الظرف الاستثنائي لتعاظم التحديات الخارجية لكل بلد وللبلدان العربية مجتمعة في مواجهة الغول الإسرائيلي, تميل السياسة – بما هي مكانيزم سلمي لتنظيم الصراعات الداخلية في المجتمعات – إلي التلاشي تقريبا بالكلية, كمعني و مبني , في الحرب والاستراتيجيا . لذلك فإن الأنظمة الأكثر استبدادا وبعدا عن التوجه الديمقراطي هي تلك التي ترتبط بدول قلقة أمنيا ومعرضة للضغوط القوية, أي التي تضخمت فيها المشاكل الأمنية وتفاقمت إلي درجة أكلت فيها الاستراتيجيا, علمياً, كل هامش أو ساحة للممارسة السياسية. وفي هذه البلدان يقاد المجتمع في الداخل كما تقاد الحرب في الخارج وبالمنطق نفسه. ولعل غالبية بلدان المشرق العربي القريبة من إسرائيل تعيش هذه الحالة الخطيرة. و الحقيقة أن التحليل الشكلي والكمي للقوي يظهر بحد ذاته اختلال التوازن الاجتماعي السياسي فيها. فكيف يمكن لمجتمعات لا تزال بسيطة التكوين, وفي مرحلة انتقالية لا تتمتع ببني ثقافية واقتصادية وسياسية ثابتة ومستقرة, بلدان لا تزال تحتاج إلي التنظيم والإعداد, أن تحتمل ضغط جيوش تعد بمئات ألوف الأفراد, وتشكل – أراد المجتمع أو رفض – النواة الصلبة الوحيد له, وأحيانا الجسم الوحيد المنظم داخل البلاد والذي يتجاوز – في تنظيمه وقدرته علي الحركة والقوة – الدولة ذاتها ؟ فالظروف أو الإطار الجغرا – سياسي قد عمل علي تدمير التوازنات الداخلية نهائيا للمجتمعات العربية. وأصبحت مسألة أمن الدولة هي محور التنظيم الاجتماعي. وليس من الصعب رؤية ذلك. فقتل الحريات الداخلية لا يجد لنفسه مبررا أخلاقيا أو سياسيا أو اقتصاديا إلا حماية الأمن القومي, وهو يصوغ نفسه في قالب أمني ويتخذ له أدوات قانونية تسمي نفسها محاكم أمن الدولة. وإذا كانت مصر أكثر البلدان العربية ميلا إلي الاحتفاظ بالحد الأدنى من التعددية, فلأنها الدولة الأكثر استقرارا وثقة بوجودها التاريخي والجغرا – سياسي: ولكن هنا أيضا كان مفهوم أمن الدولة ولا يزال السيف المسلط علي الحريات.
وينبغي ألا يمنعنا استخدام الأنظمة لهذا القلق الأمني كذريعة لتبرير القمع من رؤية المشاركة وجديتها. إن المشكلة الأمنية بمعني سيادة الدولة واستقرارها واستمراريتها وصدقيتها من الشرط الأولي والجوهرية لوجود السياسة ذاتها, ومن ثم للتفكير المبدئي بالديمقراطية والحريات. إن الدولة المستعبدة لا تستطيع أن تكون دولة الحريات, ولا أن تنتج الحريات.
2 – مشاكل الاندماج الوطني
يزداد الميل إلي الاستبداد كذلك في المجتمعات التي لم تنجح في إنجاز سيرورة اندماجها الوطني الداخلي, وليس المقصود بالاندماج وجود اللغة والثقافة والديانة الواحدة. ولكن حتى داخل جامعات الدين واللغة والثقافة الواحدة, وتتكون المجتمعات التقليدية من محليات صغيرة تتعايش مع بعضها كحبات الرمل المتجاورة، ولا يخترقها إلا لماما وبشكل محدود تيار التواصل الواسع والامتزاج الفكري والروحي , وخلط الأعراق والأفكار والمشاعر والمصالح . وتميل هذه البني التقليدية المغلقة إلي أن تنظم نفسها من خلال إعادة إنتاج العصبيات والزعامات المحلية الضيقة الأفق والمتنافسة , تماما كما كان يحصل منذ بعض العقود في الأحياء وبين القري المتحاربة . ومن طبيعة هذه البنية غير القومية للمجتمع أن تجعل من التمييز بين الجماعات والمحليات , وتحديد تراتبياتها الهرمية بما يفرض خضوع واحدتها للأخرى بالتسلسل , منبع الهيمنة التي تحتاج إليها السلطة العامة , السياسة والدولة . فالأحياء الارستقراطية تحتقر بشدة الأحياء الفقيرة , والأحياء الفقيرة تحاول التميز في ما بينها بالتنافس العدواني , والمدن تحتقر الأرياف وتمارس عدوانها المعنوي والمادي الدائم عليها ,والأرياف في ما بينها تقوم بالأمر نفسه . وليس الاحتقار هنا إلا وسيلة لتوليد العصبية , والعصبية وسيلة لا بد منها لتوليد العدوان وإنتاجه علي نطاق واسع . والعدوان الذي يبدو لنا اليوم لا معني له , هو الوسيلة التي تحقق التراتب عن طريق الخضوع المتواتر من قبل الأدنى للأعلى , حتي نصل إلي حرس السلطان وحاشيته . فالريف يخضع بالعدوان للمدينة , والمدينة تخضع بالعدوان للحاشية والقوة العسكرية السلطانية .
وعلي الرغم من أن هذا النظام لم يعد هو السائد كليا اليوم , بل لقد انهار نهائيا بعد الثورة القومية التي شهدتها المجتمعات العربية منذ الاستقلال , وعلي الرغم من أن النخب القروية والريفية قد احتلت مواقع تكاد تنافس فيها , بل هي تنافس بالفعل , النخب المدينية , فإن النمط الوطني في الاندماج الاجتماعي لم يستقر بعد . والمقصود بالنمط الوطني استبدال التراتب عن طريق الإخضاع والعدوان الذي يولد الذل والخنوع , بالتراتب السياسي الذي يقوم علي تمييز المسؤوليات , ومن ثم يحل الهيئات والتكتلات والمؤسسات الاجتماعية والسياسية والثقافية , محل العصبيات في هيكلة المجتمعات وتعضيتها . ومن هنا يستعيد الفرد مكانته أيضا بالمقابلة بالنمط السابق لأنه يصبح الوحدة الأولية التي تعد وتربي كي تندرج في هذه المؤسسة أو تلك . والسبب الرئيسي في عدم استقرار نمط مجتمع المؤسسات علي أنقاض مجتمع العصبيات هو أن التحولات الحديثة , الدولية والمحلية , وفي مقدمتها نشوء الدولة الحديثة ذاتها , وتطور حركة الاندماج الوطني الذي عملت عليه الحركة القومية في الخمسينيات والستينيات , قد ساهم في دفع فئات كثيرة من أصول بدوية وشبه بدوية وريفية إلي السلطة العليا . ولم تكن هذه الفئات بحاجة , في مرحلة المد القومي , العقائدي والسياسي , إلي بعث تقاليدها وعصبياتها القديمة لتصون سلتطها وتحافظ بها عليها , و لكنها , مع انحطاط الأنظمة القومية عموما , وتعاظم المعارضة لوجودها , ما لبثت أن وجدت في هذه العصبيات الوسيلة المثلي لتوحيد سلطة وتدعيم حكم فقد مصادر شرعيه السياسة الوطنية .
وهكذا انهارت الثقافة السياسية في العديد من الأقطار وحلت محلها التوازنات الطائفية أو العشائرية . وبقدر ما أدي تماهي الدولة مع القيم العصبوية القديمة التي تجاوزهاالزمن , تزايدت ميول المجتمع , الذي وحده عداؤه للدولة , للتماهي مع القيم الوطنية والمشاركة في السلطة . وقد قاد هذا الوضع إلي مفارقة حقيقية هي أن المجتمع اليوم في العديد من الأقطار العربية أكثر نضجا ووعيا سياسيا واندماجا وطنيا وحسا اخلاقيا بالمصلحة العمومية من الدولة .وفي هذه الحالة من الطبيعي أن يصبح الشعور بالقطعية بين الدولة والمجتمع مضاعفا , عميقا , نهائيا وكاملا .
والواقع أن النظم الراهنة في سعيها إلي البقاء في الحكم سعت إلي القضاء علي العناصر الفكرية والسياسية الجديدة التي اكتسبها المجتمع في الاندماج الوطني , لتحل محلها النمط التقليدي للتوازن بين العصبيات . ومن أجل ذلك كان هدفها الأول تكسير الثقافة الوطنية وأطر ممارستها وتربيتها التي هي الأحزاب السياسية ودفع المجتمع إلي الانطواء علي أطره التقليدية أو ما تبقي منها , القبلية أو الدينية أو الطائفية . وهذا ما حصل بالفعل إلي حد كبير . ولذلك فإن أي محاولة للانفتاح السياسي من جديد لدي هذه الدول يعني تهديد التوازن الطائفي والقبلي والجهوي بأجمعه , أي أن التعددية لا تبدو هنا ببساطة وسيلة لتوسيع القاعدة الاجتماعية للنظام القائم عن طريق اشتراك أطراف أخري من النخبة , وهو الوسيلة التقليدية في السياسة الحديثة لكل انفتاح , ولكنها تظهر وكأنها محاولة لاستبدال عصبية بعصبية , أو تهدي للمصالح العليا لهذه العصبية أو تلك أو فرصة لانفجار طائفي أو قبلي أو جهوي .
وهذا ما يدفع الأنظمة الراهنة أو بعضها إلي القول بأن رفض الانفتاح لا يقصد منع الآخرين من المشاركة ولكنه نابع من الخوف من الانفلات والفوضي , أي في الواقع من انقلاب التوازن الهش العصبوي الذي يستند أساسا إلي القوة القهرية العسكرية . وينبغي ألا يدفعنا هذا الادعاء الذي يقصد بالفعل إلي تمديد أجل الوضع الراهن , إلي الاستهانة بهذا الخطر الفعلي , بل أن وجود الشعور العميق عند القسم الأكبر من المواطنين بخطورة التحول هذا وحساسية تفكيك التوازن العصبوي والانتقال منه إلي توازن سياسي طبيعي , هو الذي يقود إلي الهدنة الراهنة ويفسر جو الانتظارية السائد .
3 – احتكار الثروة وإدارة الاحتكار
وينطبق الأمر نفسه علي البلدان التي دخلت في إطار التعددية والتي لا تشكو بالضرورة من مشاكل قبلية وطائفية تتعلق بالاندماج القومي , ولكنها تعاني ضعف الاندماج الاجتماعي , بسبب العقبات التي تواجهها في طريق التنمية الاقتصادية وتعميم نموذج الاستهلاك الحديث الذي أدخلته . فبقدر ما يؤدي استمرار الأزمة الاقتصادية إلي تزايد التفاوت في المداخيل , وبالتالي إلي تزايد حدة التوترات الاجتماعية وانكماش هامش المبادرة لدي السلطة السياسية , يجعل تفاقم التهميش والإقصاء من الحياة الاجتماعية والسياسية ملايين البشر غير معنيين بالديمقراطية وقيمها , ويحولهم إلي وسائل لتدمير أسسها وتحدي مشروعيتها . وهذا يفسر كيف يتحول التدهور السريع للأوضاع المعيشية للغالبية العظمي من السكان في أكثر الأقطار النامية إلي " غنغرينا " مدمرة , كما يبين ذلك مثال العديد من دول أمريكا اللاتينية , التي تعيش مه حرب أهلية معلنة ومستوطنة .
والحال أن معظم الدول العربية , أي الدول التي لا تملك ثروة نفطية استثنائية , تدرك أن الحفاظ علي النظام العام يستدعي الاحتفاظ بقدرة قانونية وسياسية وعسكرية كبيرة وجاهزة للتدخل السريع ضد الانتفاضات والاضطرابات والقلاقل الشعبية المرشحة لأن تكون الزاد اليومي للنظم القادمة . ويمكن القول إنه بقدر شعور الدولة بعجزها عن بلورة سياسية تنمية جدية وفاعلة , فإنها تميل إلي اتباع سياسة قمعية وتهيئ نفسها لتكون جاهزة في أي لحظة للرد علي نزوعات الثورة شكل التمردات الدينية أو الانتفاضات الدموية . وإن أكثر ما تخشاه هذه الأنظمة هو أن تؤدي المشاركة إلي توسيع هامش الحرية , وأن يشجع هذا الجماهير والنخبة المهمشة علي العودة إلي التوظيف النفسي والسياسي في القوي التي تعبر أكثر من غيرها عن معاداة النظام والصدام مع مقاومته من خارج الشرعية . وإذا التقي الشعب المهمش اجتماعيا واقتصاديا مع النخب السياسية المستبعدة سياسيا نكون قد عدنا بالفعل إلي الأجواء التي فجرت مع " الثورة الإيرانية " , وهذا هو مركز القلق الدائم للبلدان العربية .
رد: حقوق الإنسان العربي
والواقع أن الأنظمة العربية , شأنها شأن أنظمة العالم الثالث جميعا في هذهالحقبة , تتعرض لنوعين من الضغط القوي , ضغط سياسات صندوق النقد الدولي , وما تتطلبه من ضرورة تقليص النفقات وضغط الميزانيات , وضغط الشارع الذي يئن تحت وطأة الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي خلفها إخفاق السياسة التقليدية . وبين الإصلاح الاقتصادي والإصلاح الاجتماعي لا يزال الاتجاه السائد حتي اليوم هو نحو تحميل الطبقات الشعبية القسط الرئيسي , إن للم يكن الكامل , للأزمة الراهنة . وفي هذه الحالة من المفهوم أن تتشدد الحكومات في الانفتاح وتسعي بأقصى ما تستطيع , إلي تأجيله أو منعه أو تحويله إلي واجهة شكلية حتي لا تضطر إلي تقليص هامش مبادرتها الاقتصادية , أكثر مما هو مقلص اليوم . فالتعددية في ظروف العجز الكامل تعني التهديد بفقدان الشرعية , والمصداقية أمام الرأيالعام . وربما كان أحد الأسباب التي تبرر بها الأنظمة وضعها العوائق أمام تطوير التعددية , هو إدراكها أيضا أن المعارضات , كما هي عليه اليوم , لا تمتلك من الأوراق النظرية والتحالفات الداخلية والخارجية ما يجعلها أقدر علي صوغ سياسات أفضل .
وهذا يعني أن التعددية تترافق اليوم , تماما كما كان عليه الحال بعد الاستقلال , بروح محافظة حقيقية , وتولد سوء تفاهم متزايد بين النخبة المعارضة التي تريد أن تجد فيها أو تحولها إلي تربة صالحة لإعادة تأكيد وجودها وتحسين مواقعها في السلطة , أي إلي أداة للعمل السياسي والتعبئة الشعبية , وبين الدولة التي تطمح إلي استخدامها كطعم لتقريب المعارضة السياسية منها , وإبعادها عن العمل في الوسط الشعبي . إن الحكومات تدرك تماما إن استمرار الأزمة الاقتصادية والاجتماعية يزيد من تهميش الفئات الشعبية وتدمير حسها الوطني والسياسي , وفي حين أن غياب المشاركة السياسية يهدد بدفع النخب المستبعدة إلي المراهنة المتزايدة من جديد علي الجماهير المتحولة ببساطة إلي كتل يسهل التلاعب بها واستخدامها في مشاريع الثورات الخاصة والعامة .
وتتلخص استراتيجية الدولة في السعي إلي تحويل التعددية إلي وسيلة لتوزيع الحصص والمناصب وكسب ما أمكن من أعضاء النخبة , بهدف توحيدها وجذبها للمشاركة في الحكم علي برنامج المواجهة غير المعلنة مع الجمهور الواسع المهدد بالانفجار , ولكن إذا كان من السهل عليها أن تجذب الفئات والأحزاب الصغيرة المفتقرة إلي القاعدة الشعبية , فليس من الممكن شطب أو تحييد الأحزاب التي تمتلك قاعدة شعبية قوية إلا بتدجينها وتكبيلها بالشروط والمواثيق التي تعمل علي حرمانها تدريجيا من قاعدتها هذه , وهو شرط تحويلها إلي أداة من أدوات الحكم . وليس من الممكن النجاح في ذلك إلا بتقسيمها وإضعافها قبل التفاهم معها . إن مشروع المشاركة كما تفهمها الدولة هو في الواقع التنازل للمعارضة عن جزء من الحكم مقابل عزلها عن الجمهور وقبولها بالانعزال عنه . وهذا يفسر لماذا لم يتم التحول نحو الديمقراطية والتعددية بالانفتاح التام أو البسيط وتقرير الحريات العامة , وإنما يتخذ صورة المساومة الدائمة والمعركة المستمرة لكسب مواقع وإضعاف قوي وتفتيت أخري . فالمطلوب هو تفريغ التعددية من معناها ومضمونها التنافسي بين المشاريع والنخب المتعددة قبل تبنيها والاعتراف بها وممارستها كإطار لوحدة النخبة . وبهذه الطريقة تتحول المشاركة والتعددية إلي نوع من ترميم النظام القائم الذي لا يبدو أن له بديلا بالمعني الحقيقي للكلمة كنظام سياسي اجتماعي . ويعني الترميم بالدرجة الأولي هنا تزويده بقاعدة شكلية للشرعية , شبيهة بورقة التوت . فإذا رفضت المعارضة هذا النوع من المشاركة تحولت إلي عنصر اضطراب دون أن تدري , أي هددت بأن تقلب التوازن الاجتماعي الهش الراهن بين النخبة عموما والجمهور المهمش دون أن توجد الأسس الاقتصادية والاجتماعية لتوازن جديد .
والواقع أن كل توزيع جديد للسلطة يفترض ويتضمن إعادة توزيع الثروة الوطنية . وكلما توسعت قاعدة الحكم توسعت دائرة التوزيع . فإن كان الفائض بحد ذاته ضئيلا جدا والثروة معدومة ,فإن التوسع يعني تضخم الآمال والأوهام , والارتماء في المجهول . وهدف المناورات الدائمة للسلطات اليوم مع المعارضة هو إقناع الأخيرة بأن تقبل بقسمة لا بكون فيها لحلفائها وجمهورها حصة تذكر , أي باختصار , إن شعبة الحزب وجماهيريته هما أكبر عائق اليوم أمام قبوله في التعددية . وعلي عكس ما يشاع عادة , إن الدافع للتباطؤ في تطبيق البرنامج التعددي هو الخوف من قوة المعارضة وليس ضعفها , وذلك إذا لم نضيق معني المعارضة علي العلمانية منها , أي المعلنة .
وأخيرا , من الواضح أن فصل الأحزاب المعارضة عن جمهورها كشرط لإشراكها في السلطة هو الترجمة الفورية لغياب القدرة علي بلورة سياسة تنموية فعلية , والشعور بانعدام الآفاق والإمكانات المتاحة لذلك . وما يزيد من هذا اليأس العام عند السلطات الفعلية علي أداتها الكبرى , الدولة , بسبب الفساد العميق الذي يميز النخب الحاكمة والإدارية في المجتمعات العربية . وهو مرض عضال قادر علي إفراغ أي نظام سياسي , مهما كان شكله , من مضمونة , والقضاء علي أي إدارة إصلاح أو تغيير حقيقي في الحياة السياسية والاجتماعية .والواقع أن غياب أو تغييب حريات التعبير , وتهريب القسم الأكبر من النخبة والعناصر المخلصة إلي الخارج , جعل من العناصر التي تستلم معظم المناصب والمواقع العليا في الدول , هي تلك التي نجحت بسبب علاقاتها الزبائنية في استبعاد كل العناصر المخلصة والجدية . حتي ليمكن القول من منظور مراقب محايد , إن النظم العربية الراهنة العلمية والسياسية والاقتصادية لم تعمل في العقود الماضية إلا كأطر للانتقاء السلبي , وترسيخ قيم الوصولية والانتهازية والعائلية والتبعية . وقد أصبح من الصعب علي هذه النظم أن تتأقلم مع الانفتاح الديمقراطي لما يعنيه ذلك من تهديد لها و لمواقعها . وهكذا فنحن هنا في حلقة مفرغة تحتاج إلي عملية جراحية حقيقية في ما يتعلق بالتغيير الإداري والسياسي والاقتصادي , أي بالإصلاح .
4 – انقسام النخبة وغياب الإجماع
إذا كان من غير الممكن لأحد أن ينكر أن فكرة الديمقراطية قد غزت الفكر السياسي العربي اليوم كما لم يحصل من قبل , وأن العمل علي تحقيقها قد أصبح من المعطيات الرئيسية للحياة السياسية العربية , فإن ما لا يمكن إنكاره أيضا أن هذا التقدم الذي تشهده الفكرة علي مستوي الانتشار , بل حتي التطبيق , لا يترافق في الواقع بما فيه الكفاية بتعميق مفهومها وإبراز الشروط الثقافية والاقتصادية التي تتحكم في مسيراتها سلبا وإيجابا . وهناك بين من يتحدث اليوم في الديمقراطية في الوطن العربي من يعتقد أن الموضوع يتعلق بمادة للاستهلاك الشعاراتي , ليس له معني ولا مضمون حقيقي , وهناك من يعتقد أن الديمقراطية يمكن أن تكون شعارا مفيدا للتخفيف من احتكار السلطة الراهنة , ولكنها لا يمكن أن تحظي في الوطن العربي بالتطبيق الحقيقي نظرا إلي غياب الإدارة أو الوعي الديمقراطي , وهناك من يعتقد أن الديمقراطية يمكن أن تؤلف في الوقت الراهن وسيلة للتغطية علي الأزمة الاقتصادية والتقصير الرسمي في هذا المجال أو ذلك , ومن ثم أن تكون متنفسا للناس في جو الضائقة الراهنة , وليس هناك إلا فئة قليلة من السكان وأصحاب الرأي يعتقد بالفعل بالديمقراطية وبإمكانية تحقيقها , كما تعتقد أن ترسيخ قيم الديمقراطية في المجتمع العربي هو مهمة رئيسية اليوم من أجل التمهيد لمرحلة التغيير والإصلاح الشامل العقائدي والثقافي والسياسي والاقتصادي , وأن تمثل القيم الديمقراطية هو وحده الكفيل بتأمين شروط سلطة مستقرة وعقلانية قادرة علي ضمان مشاركة الناس وحثهم أو دفعهم إلي العمل والعلم وبذل الجهد بقدر ما تكون معبرة عنهم حقيقة , فكريا وسياسيا وماديا , وبالتالي قادرة علي مواجهة المشاكل الكبيرة والعويصة المطروحة علي الشعوب العربية معا . ولا يزال القسم الكبير من الناس يعتبر هذه الفئة ساذجة أو مثالية لا تدرك الصعوبات التي تعترض مثل هذا التحقيق لنظام ليس للعرب به , من النواحي الفكرية والسياسية والمادية , علاقة فعلية .
ولعل هو ما أخطر من ذلك , الانقسام أو الانعدام الإجماع في صفوف النخبة السياسية والاجتماعية نفسها حول الثوابت والقيم الكبري الوجهة للمجتمع ككل والتي لا يمكن التوصل إلي تفاهم ديمقراطي شامل من دونها , وأكثر ما يعكس هذا الانقسام المواجهة العقائدية المستمرة بين من يطلقون علي أنفسهم العلمانيين ومن يسمون الإسلاميين .
ولا يخفي علي أحد اليوم أو وجود جماعات الضغط الدينية , العلنية أو السرية , والتطور الذي تشهده الحركة السياسية الإسلامية , يثير الخوف لدي قسم كبير من أعضاء النخبة المتنفذة والمرتبطة بشكل أكبر بالدولة الحديثة , في الإدارة والتقنية والجيش . وهكذا فإننا نتجه دون أن ندري نحو حالة من المجابهة المتفاقمة بين نخبتين متناقضتين تسيطر الأولي علي الدولة وتتمركز فيها , وتسيطر الثانية علي المجتمع والشارع وتتحصن فيهما أيضا . وربما كان هناك من يعتقد أنه لا مانع من استمرار هذه القسمة طالما كان الشارع يعني الفراغ وانعدام المصالح , والدولة هي أساس القوة ومصدر الثروة , بيد أن استمرار مثل هذه المواجهة سوف يقضي لا محالة علي الدولة وعلي المجتمع , لأنه سوف يشكل الظرف المناسب لتوقف كل أنواع الاستثمار المادي والمعنوي في البلاد ويقود إلي الخراب الشامل . وهو يكاد يقضي اليوم علي أي فرصة للعمل الوطني البناء , ويعمل علي تحييد قويالتغيير , واحدتها بالأخرى , وخلق جو الحرب الأهلية الدائمة , في الوقت الذي تحتاج المجتمعات العربية إلي تجميع أصغر طاقاتها من أجل مواجهة مشاكل وتحديات تفوق قدراتها وإمكاناتها كثيرا , ليس أقلها التحدي الإسرائيلي والتحدي التنموي .
والواقع أن النخبة العربية العلمانية يتقاسمها – كما عبرت عن ذلك التجربة السياسية ذاتها وجسدته في الأقطار المختلفة – موقفان أساسيان من القوي الدينية النشطة. الموقف الأول بقول بضرورة عدم إعطاء قوي سياسية معادية بطبيعتها للديمقراطية الحق في العمل السياسي الشرعي الذي يمكن أن يتيح لها الفرصة للانقضاض علي الدولة وإعادة الدكتاتورية . وفي مقابل هذا الموقف. وعلي النقيض منه, يوجد تيار ما زال أقلويا, يدافع عن الأطروحة التي تقول إن الديمقراطية يمكن أن تكون الحل الوحيد للخطر الذي تمثله هذه القوي . فعن طريق فسح المجال أمامها للعمل ضمن إطار علني سياسي , يمكن تشجيعها علي العمل حسب الأصول والقواعد والمعايير الوطنية , وتنمية روح المسؤولية العمومية والتسويات السياسية والحوار لديها . ثم إن هذه المشاركة بما تفرضه عليها من العمل الشفاف والشعبي الواضح , تجبرها علي تطوير مواقفها بما يفيد بلورة رؤية وبرنامج عمل عمليين وملموسين , بحل الاحتماء والتمترس وراء شعارات عامة مثيرة للجماهير , دون أن تكون ملزمة بأي مسؤولية علمية وتطبيقية . باختصار , يعتقد هذا الرأي أن العمل الديمقراطي لا بد من أن يظهر غياب البرنامج العملي عن هذه القوي ويقود إلي كشف حقيقتها وعجزها عن تمثيل مصالح الفئات المهمشة بالفعل , ومن ثم إلي لجم توسيعها ومراقبة نشاطها وإضعافها . ومن المعروف أن خير وسيلة لكسب التعاون الإيجابي لطرف من الأطراف هو إشراكه في المشروع , وجعله يدرك أن له فيه حصة يدافع عنها . وهذا هو مبدأ الشرعية الديمقراطية في الواقع : خلق منظومة سلطة يشعر الجميع أن لهم مصلحة في حمايتها من التهديد والسقوط أو الفساد تكون أساسا لتوليد إجماع وطني , وتكوين نخبة قوية .
ويذكرنا هذا الجدال بما حصل من جدال في أوروبا الغربية ذاتها منذ بداية هذا القرن , وحتي إلي ما بعد الحرب العالمية الثانية , حول إعطاء حق العمل الشرعي للأحزاب الشيوعية التي كانت تقول علنا بدكتاتورية البروليتاريا . وكان الرأي العام الغربي منقسما أيضا حول هذه المسألة . أما الديمقراطيون الأصيلون فقد كانوا يقولون إن العداء للديمقراطية نفسه هو وجهة نظر لا يمكن للديمقراطية أن تمنعها , ما دامت تسعي إلي تحقيق برنامجها عن طريق الشرعية الديمقراطية , ومنعها يعني إلغاء الشرعيةالديمقراطية ذاتها . فأهمية الديمقراطية وشرعيتها وجاذبيتها نابعة بالضبط من أنها ليست نموذجا مختلفا للدكتاتورية , وإنما هي إطار يتيح للجميع , بما في ذلك أعداؤها , العمل من خلالها . وفي النهاية انتصرت الديمقراطية بالفعل في أوروبا لأنها بدل أن تكون فكرة بين أفكار أصبحت أرضية لتعايش جميع الأفكار وتفاعلها , أصبحت أكبر من غيرها , ومن ثم قادرة علي استيعاب الجميع . هذه هي أيضا قاعدة الرهان الرئيسية التي تستند إليها الديمقراطية بما هي حل ممكن للصراعات السياسية العقائدية داخل الأمم والمجتمعات .
وهذا يعني أن التعددية تترافق اليوم , تماما كما كان عليه الحال بعد الاستقلال , بروح محافظة حقيقية , وتولد سوء تفاهم متزايد بين النخبة المعارضة التي تريد أن تجد فيها أو تحولها إلي تربة صالحة لإعادة تأكيد وجودها وتحسين مواقعها في السلطة , أي إلي أداة للعمل السياسي والتعبئة الشعبية , وبين الدولة التي تطمح إلي استخدامها كطعم لتقريب المعارضة السياسية منها , وإبعادها عن العمل في الوسط الشعبي . إن الحكومات تدرك تماما إن استمرار الأزمة الاقتصادية والاجتماعية يزيد من تهميش الفئات الشعبية وتدمير حسها الوطني والسياسي , وفي حين أن غياب المشاركة السياسية يهدد بدفع النخب المستبعدة إلي المراهنة المتزايدة من جديد علي الجماهير المتحولة ببساطة إلي كتل يسهل التلاعب بها واستخدامها في مشاريع الثورات الخاصة والعامة .
وتتلخص استراتيجية الدولة في السعي إلي تحويل التعددية إلي وسيلة لتوزيع الحصص والمناصب وكسب ما أمكن من أعضاء النخبة , بهدف توحيدها وجذبها للمشاركة في الحكم علي برنامج المواجهة غير المعلنة مع الجمهور الواسع المهدد بالانفجار , ولكن إذا كان من السهل عليها أن تجذب الفئات والأحزاب الصغيرة المفتقرة إلي القاعدة الشعبية , فليس من الممكن شطب أو تحييد الأحزاب التي تمتلك قاعدة شعبية قوية إلا بتدجينها وتكبيلها بالشروط والمواثيق التي تعمل علي حرمانها تدريجيا من قاعدتها هذه , وهو شرط تحويلها إلي أداة من أدوات الحكم . وليس من الممكن النجاح في ذلك إلا بتقسيمها وإضعافها قبل التفاهم معها . إن مشروع المشاركة كما تفهمها الدولة هو في الواقع التنازل للمعارضة عن جزء من الحكم مقابل عزلها عن الجمهور وقبولها بالانعزال عنه . وهذا يفسر لماذا لم يتم التحول نحو الديمقراطية والتعددية بالانفتاح التام أو البسيط وتقرير الحريات العامة , وإنما يتخذ صورة المساومة الدائمة والمعركة المستمرة لكسب مواقع وإضعاف قوي وتفتيت أخري . فالمطلوب هو تفريغ التعددية من معناها ومضمونها التنافسي بين المشاريع والنخب المتعددة قبل تبنيها والاعتراف بها وممارستها كإطار لوحدة النخبة . وبهذه الطريقة تتحول المشاركة والتعددية إلي نوع من ترميم النظام القائم الذي لا يبدو أن له بديلا بالمعني الحقيقي للكلمة كنظام سياسي اجتماعي . ويعني الترميم بالدرجة الأولي هنا تزويده بقاعدة شكلية للشرعية , شبيهة بورقة التوت . فإذا رفضت المعارضة هذا النوع من المشاركة تحولت إلي عنصر اضطراب دون أن تدري , أي هددت بأن تقلب التوازن الاجتماعي الهش الراهن بين النخبة عموما والجمهور المهمش دون أن توجد الأسس الاقتصادية والاجتماعية لتوازن جديد .
والواقع أن كل توزيع جديد للسلطة يفترض ويتضمن إعادة توزيع الثروة الوطنية . وكلما توسعت قاعدة الحكم توسعت دائرة التوزيع . فإن كان الفائض بحد ذاته ضئيلا جدا والثروة معدومة ,فإن التوسع يعني تضخم الآمال والأوهام , والارتماء في المجهول . وهدف المناورات الدائمة للسلطات اليوم مع المعارضة هو إقناع الأخيرة بأن تقبل بقسمة لا بكون فيها لحلفائها وجمهورها حصة تذكر , أي باختصار , إن شعبة الحزب وجماهيريته هما أكبر عائق اليوم أمام قبوله في التعددية . وعلي عكس ما يشاع عادة , إن الدافع للتباطؤ في تطبيق البرنامج التعددي هو الخوف من قوة المعارضة وليس ضعفها , وذلك إذا لم نضيق معني المعارضة علي العلمانية منها , أي المعلنة .
وأخيرا , من الواضح أن فصل الأحزاب المعارضة عن جمهورها كشرط لإشراكها في السلطة هو الترجمة الفورية لغياب القدرة علي بلورة سياسة تنموية فعلية , والشعور بانعدام الآفاق والإمكانات المتاحة لذلك . وما يزيد من هذا اليأس العام عند السلطات الفعلية علي أداتها الكبرى , الدولة , بسبب الفساد العميق الذي يميز النخب الحاكمة والإدارية في المجتمعات العربية . وهو مرض عضال قادر علي إفراغ أي نظام سياسي , مهما كان شكله , من مضمونة , والقضاء علي أي إدارة إصلاح أو تغيير حقيقي في الحياة السياسية والاجتماعية .والواقع أن غياب أو تغييب حريات التعبير , وتهريب القسم الأكبر من النخبة والعناصر المخلصة إلي الخارج , جعل من العناصر التي تستلم معظم المناصب والمواقع العليا في الدول , هي تلك التي نجحت بسبب علاقاتها الزبائنية في استبعاد كل العناصر المخلصة والجدية . حتي ليمكن القول من منظور مراقب محايد , إن النظم العربية الراهنة العلمية والسياسية والاقتصادية لم تعمل في العقود الماضية إلا كأطر للانتقاء السلبي , وترسيخ قيم الوصولية والانتهازية والعائلية والتبعية . وقد أصبح من الصعب علي هذه النظم أن تتأقلم مع الانفتاح الديمقراطي لما يعنيه ذلك من تهديد لها و لمواقعها . وهكذا فنحن هنا في حلقة مفرغة تحتاج إلي عملية جراحية حقيقية في ما يتعلق بالتغيير الإداري والسياسي والاقتصادي , أي بالإصلاح .
4 – انقسام النخبة وغياب الإجماع
إذا كان من غير الممكن لأحد أن ينكر أن فكرة الديمقراطية قد غزت الفكر السياسي العربي اليوم كما لم يحصل من قبل , وأن العمل علي تحقيقها قد أصبح من المعطيات الرئيسية للحياة السياسية العربية , فإن ما لا يمكن إنكاره أيضا أن هذا التقدم الذي تشهده الفكرة علي مستوي الانتشار , بل حتي التطبيق , لا يترافق في الواقع بما فيه الكفاية بتعميق مفهومها وإبراز الشروط الثقافية والاقتصادية التي تتحكم في مسيراتها سلبا وإيجابا . وهناك بين من يتحدث اليوم في الديمقراطية في الوطن العربي من يعتقد أن الموضوع يتعلق بمادة للاستهلاك الشعاراتي , ليس له معني ولا مضمون حقيقي , وهناك من يعتقد أن الديمقراطية يمكن أن تكون شعارا مفيدا للتخفيف من احتكار السلطة الراهنة , ولكنها لا يمكن أن تحظي في الوطن العربي بالتطبيق الحقيقي نظرا إلي غياب الإدارة أو الوعي الديمقراطي , وهناك من يعتقد أن الديمقراطية يمكن أن تؤلف في الوقت الراهن وسيلة للتغطية علي الأزمة الاقتصادية والتقصير الرسمي في هذا المجال أو ذلك , ومن ثم أن تكون متنفسا للناس في جو الضائقة الراهنة , وليس هناك إلا فئة قليلة من السكان وأصحاب الرأي يعتقد بالفعل بالديمقراطية وبإمكانية تحقيقها , كما تعتقد أن ترسيخ قيم الديمقراطية في المجتمع العربي هو مهمة رئيسية اليوم من أجل التمهيد لمرحلة التغيير والإصلاح الشامل العقائدي والثقافي والسياسي والاقتصادي , وأن تمثل القيم الديمقراطية هو وحده الكفيل بتأمين شروط سلطة مستقرة وعقلانية قادرة علي ضمان مشاركة الناس وحثهم أو دفعهم إلي العمل والعلم وبذل الجهد بقدر ما تكون معبرة عنهم حقيقة , فكريا وسياسيا وماديا , وبالتالي قادرة علي مواجهة المشاكل الكبيرة والعويصة المطروحة علي الشعوب العربية معا . ولا يزال القسم الكبير من الناس يعتبر هذه الفئة ساذجة أو مثالية لا تدرك الصعوبات التي تعترض مثل هذا التحقيق لنظام ليس للعرب به , من النواحي الفكرية والسياسية والمادية , علاقة فعلية .
ولعل هو ما أخطر من ذلك , الانقسام أو الانعدام الإجماع في صفوف النخبة السياسية والاجتماعية نفسها حول الثوابت والقيم الكبري الوجهة للمجتمع ككل والتي لا يمكن التوصل إلي تفاهم ديمقراطي شامل من دونها , وأكثر ما يعكس هذا الانقسام المواجهة العقائدية المستمرة بين من يطلقون علي أنفسهم العلمانيين ومن يسمون الإسلاميين .
ولا يخفي علي أحد اليوم أو وجود جماعات الضغط الدينية , العلنية أو السرية , والتطور الذي تشهده الحركة السياسية الإسلامية , يثير الخوف لدي قسم كبير من أعضاء النخبة المتنفذة والمرتبطة بشكل أكبر بالدولة الحديثة , في الإدارة والتقنية والجيش . وهكذا فإننا نتجه دون أن ندري نحو حالة من المجابهة المتفاقمة بين نخبتين متناقضتين تسيطر الأولي علي الدولة وتتمركز فيها , وتسيطر الثانية علي المجتمع والشارع وتتحصن فيهما أيضا . وربما كان هناك من يعتقد أنه لا مانع من استمرار هذه القسمة طالما كان الشارع يعني الفراغ وانعدام المصالح , والدولة هي أساس القوة ومصدر الثروة , بيد أن استمرار مثل هذه المواجهة سوف يقضي لا محالة علي الدولة وعلي المجتمع , لأنه سوف يشكل الظرف المناسب لتوقف كل أنواع الاستثمار المادي والمعنوي في البلاد ويقود إلي الخراب الشامل . وهو يكاد يقضي اليوم علي أي فرصة للعمل الوطني البناء , ويعمل علي تحييد قويالتغيير , واحدتها بالأخرى , وخلق جو الحرب الأهلية الدائمة , في الوقت الذي تحتاج المجتمعات العربية إلي تجميع أصغر طاقاتها من أجل مواجهة مشاكل وتحديات تفوق قدراتها وإمكاناتها كثيرا , ليس أقلها التحدي الإسرائيلي والتحدي التنموي .
والواقع أن النخبة العربية العلمانية يتقاسمها – كما عبرت عن ذلك التجربة السياسية ذاتها وجسدته في الأقطار المختلفة – موقفان أساسيان من القوي الدينية النشطة. الموقف الأول بقول بضرورة عدم إعطاء قوي سياسية معادية بطبيعتها للديمقراطية الحق في العمل السياسي الشرعي الذي يمكن أن يتيح لها الفرصة للانقضاض علي الدولة وإعادة الدكتاتورية . وفي مقابل هذا الموقف. وعلي النقيض منه, يوجد تيار ما زال أقلويا, يدافع عن الأطروحة التي تقول إن الديمقراطية يمكن أن تكون الحل الوحيد للخطر الذي تمثله هذه القوي . فعن طريق فسح المجال أمامها للعمل ضمن إطار علني سياسي , يمكن تشجيعها علي العمل حسب الأصول والقواعد والمعايير الوطنية , وتنمية روح المسؤولية العمومية والتسويات السياسية والحوار لديها . ثم إن هذه المشاركة بما تفرضه عليها من العمل الشفاف والشعبي الواضح , تجبرها علي تطوير مواقفها بما يفيد بلورة رؤية وبرنامج عمل عمليين وملموسين , بحل الاحتماء والتمترس وراء شعارات عامة مثيرة للجماهير , دون أن تكون ملزمة بأي مسؤولية علمية وتطبيقية . باختصار , يعتقد هذا الرأي أن العمل الديمقراطي لا بد من أن يظهر غياب البرنامج العملي عن هذه القوي ويقود إلي كشف حقيقتها وعجزها عن تمثيل مصالح الفئات المهمشة بالفعل , ومن ثم إلي لجم توسيعها ومراقبة نشاطها وإضعافها . ومن المعروف أن خير وسيلة لكسب التعاون الإيجابي لطرف من الأطراف هو إشراكه في المشروع , وجعله يدرك أن له فيه حصة يدافع عنها . وهذا هو مبدأ الشرعية الديمقراطية في الواقع : خلق منظومة سلطة يشعر الجميع أن لهم مصلحة في حمايتها من التهديد والسقوط أو الفساد تكون أساسا لتوليد إجماع وطني , وتكوين نخبة قوية .
ويذكرنا هذا الجدال بما حصل من جدال في أوروبا الغربية ذاتها منذ بداية هذا القرن , وحتي إلي ما بعد الحرب العالمية الثانية , حول إعطاء حق العمل الشرعي للأحزاب الشيوعية التي كانت تقول علنا بدكتاتورية البروليتاريا . وكان الرأي العام الغربي منقسما أيضا حول هذه المسألة . أما الديمقراطيون الأصيلون فقد كانوا يقولون إن العداء للديمقراطية نفسه هو وجهة نظر لا يمكن للديمقراطية أن تمنعها , ما دامت تسعي إلي تحقيق برنامجها عن طريق الشرعية الديمقراطية , ومنعها يعني إلغاء الشرعيةالديمقراطية ذاتها . فأهمية الديمقراطية وشرعيتها وجاذبيتها نابعة بالضبط من أنها ليست نموذجا مختلفا للدكتاتورية , وإنما هي إطار يتيح للجميع , بما في ذلك أعداؤها , العمل من خلالها . وفي النهاية انتصرت الديمقراطية بالفعل في أوروبا لأنها بدل أن تكون فكرة بين أفكار أصبحت أرضية لتعايش جميع الأفكار وتفاعلها , أصبحت أكبر من غيرها , ومن ثم قادرة علي استيعاب الجميع . هذه هي أيضا قاعدة الرهان الرئيسية التي تستند إليها الديمقراطية بما هي حل ممكن للصراعات السياسية العقائدية داخل الأمم والمجتمعات .
رد: حقوق الإنسان العربي
رابعا: إصلاح المسار الديمقراطي
هذه النقائض و التناقضات, مجتمعة, هي التي تفسر الوضع الذي نعيشه حركة الديمقراطية وحقوق الإنسان اليوم في الوطن العربي, والذي يتميز بسمتين أساسيتين, السمة الأولي: فقدان العمق الشعبي , مما يجعلها تنحصر في الأوساط المثقفة والسياسية من جهة , ويدفع قوي الاحتجاج الشعبية المتزايدة نحو الانخراط في المشاريع السياسية الثورية والتمردية والعنيفة . والسمة الثانية : السطحية والهشاشة النظرية والسياسية معا , الأمر الذي يعطيها طابع الشعار المستخدم للاستهلاك والغش المتبادل أكثر مما يحولها إلي قيمة إنسانية كبري تلهم سلوكا فرديا وجماعيا ويتحكم إليها وبها . ومن هنا انعدام الحماس للعمل الديمقراطي وحقوق الإنسان المرتبطة به بين صفوف الجمهور الواسع . وما كان من الممكن والحال هذه أن يأخذ هذا الجمهور حركة بهذا القدر من الهزال والضعف والتناقض وعدم الاتساق مأخذ الجد , لهذا لم تستطيع الديمقراطية أن تتحول إلي حركة فكرية وسياسية حقيقية تنقد صورة النخبة الاجتماعية عموما في مخيلة الرأي العام مما أصابها من تهلهل وتراجع . فقد بقيت , مثلها مثل فكرة حقوق الإنسان , فكرة سياسية عامة . ولم تنجح حتي في الأقطار التي تجاوزت فيها كل ما سبقها , في بلورة برنامج اجتماعي حقيقي يطمئن الرأي العام إلي أن هناك تغييرا حقيقيا في نمط ممارسة السلطة , وأن هذا التغيير , إذا وجد , يمكن أن يفتح آفاقا جديدة ويزيد من فرص تطوير شروط إرضاء الحاجات الأساسية التي أسقطت شرعية النظم السابقة بسبب عجزها عن إرضائها . ويزيد من تأثير ذلك استمرار الصراع حول مضمون المشاركة السياسية وتفاقم تناقضات النخب السياسية وصراعاتها في ما بينها . وكل ذلك يعمق الشعور بعدم وضوح المشروع الديمقراطي ويضعف صدقيته , ويزيد الاعتقاد بإخفاق النخبة الاجتماعية في بلورة رؤية واضحة للعمل السياسي المقبل .
فعلي ماذا يمكننا , إذا , المراهنة من أجل معالجة هذا النقص ودفع المسيرة الديمقراطية إلي آفاق جديدة في المجتمعات العربية ؟
يستدعي العمل لتطوير حركة الديمقراطية وحقوق الإنسان في الوطن العربي , وهما في الواقع حركة واحدة , مواجهة المشاكل الرئيسية التي تحدثنا عنها , والسعي إلي إيجاد الحلول العلمية لها . وإذا كان بعضها يتعلق بالعمل علي المدي الطويل وبالنفس الطويل . فإن البعض الأخر يفترض تدخلات مباشرة , موضوعية , وسريعة . ويقتضي هذا العمل , في جميع الحالات , محاربة روح اليأس والتثبيط والإحباط التي تقود إلي مواقف التطرف والتمرد الأعمى والعمومي المجرد وزرع روح المعالجة العقلانية والمرنة مكانها لدي النخبة والجمهور معاً .
لكن , قبل كل شيء , ينبغي علي جميع أطراف المعارضة أن تدرك حقيقة المشاكل المطروحة وجديتها , حتي تستطيع أن تعمل بمستوي المسؤولية الوطنية والقومية , وألا بتحول سلوكها إلي مجرد رد فعل وتكذيب للسلطة والحكم . فمشكلة الأمن القومي , الخارجي والداخلي , وهشاشة الدولة والنظام العام , والمأزق الاقتصادي والانقسام الخطير في الرأي العام , ليست مشاكل مصطنعة ولا شكلية في نظرنا , ولكن الحلول التي تقدمها لها الأنظمة الراهنة حلول خاطئة , لا تستطيع أن تفيد فيها , وهي التي ينبغي مواجهتها وتقديم بديل لها . إنها تحاول إنقاذ المريض بقطع يده , أو خنقه بل قتلة , فلا هي تنجح في اختراع الدواء الذي يحتاج إليه , ولا هي تقبل بتركه يبحث في مكان آخر , وهكذا تبقي التعددية والديمقراطية مؤجلة , تماما مثلما يبقي مصير الدولة ذاته معلقا . ولكن إذا لم تعرف المعارضة بجدية المشاكل القائمة فلن تستطيع أن تحظي بالصدقية , وسوف ينظر إليها باستمرار كالطفل المتمرد وليس كالراشد القادر علي تحمل المسؤولية .
ففي ما يتعلق بالأمن القومي , أي الخارجي , لا يمكن حماية الدولة من التدخلات الأجنبية ولا الضغوط الخارجية المستمرة بمنع الحريات وتخليد الاستبداد , أي بإلغاء الحياة الاجتماعية والسياسية , كما هو حاصل اليوم , ولكن في العمل علي إزالة أسباب الهشاشة الأمنية للدولة . وهذا يعني علي المدي الطويل , وفي ما يتعلق بالإطار العام والأهم للبنية الجغرا – سياسية , ليس المطلوب تغيير المكان بالطبع , ولا توسيع الحدود واكتساب المواقع علي حساب البلدان العربية المجاورة , وهي نوع من الحلول الخاطئة الأخري , ولكن تجاوز العقبات المختلفة التي تمنع التفاهم العربي من أجل بناء نظام أمني مشترك . فليس هناك , علي المدي الطويل , إي أمل في توطين الديمقراطية الحقيقية في المجتمعات العربية دون بناء الدولة الاتحادية التي تستطيع وحدها أن تحمل عبء الموقع والمكانة والثروة التي نعيش عليها . وفي هذه الحالة يصبح الموقع الاستراتيجي العربي سلاحا بقدر ما هو اليوم نقطة الضعف الأولي . وهذا يعني بذل الجهد الدائم من أجل إنهاء النزاعات والخلافات العربية – العربية , وتعميق لحمة التعاون والترابط علي مستوي الأمن القومي , وجعل فكرة الوحدة العسكرية والسياسية الخارجية مطلبا عاما للسنوات المقبلة لدي كل أطراف النخبة العربية . وليس هناك أقل من ذلك في نظري لوضع القاعدة الحقيقية للاستقرار الذي يشكل الأرضية والتربة الأولية لنشوء الاستقرار الداخلي . وينبغي ألا تلهينا التجمعات الصغيرة والشكلية عن الوحدة العربية أو الاتحاد العربي . فليس بإمكان هذه التجمعات حسم موضوع التنازع والتنافس العربي , بل إنما يمكن أن تتحول هي نفسها إلي مصدر جديد لبذر الخلاف والفرقة . حتي دون ذلك , ليس من الممكن تجاوز الحساسيات بين البلدان العربية وخشيتها بعضها من البعض الآخر , إلا بوضعها جميعا في إطار نظام عام وواحد للأمن , يشعر فيه الجميع , أقطارا وشعوبا , بأن أمن كل منها يتوقف علي أمن الآخر ويدعمه .
وترتبط بمسألة الوحدة والاتحاد مسائل العمل لتجاوز التناقضات والأزمات الاقتصادية والاجتماعية والعقائدية والسياسية جميعا . فبقدر ما تحرك التبعية السلطة من إمكانية الاستقلال بسياستها , وترجمتها إلي المصالح الاجتماعية الحقيقية , والإدارة القومية في برنامج عملها , تضطرها في كل حركة ومشروع لأن تضع في اعتبارها أولا العامل الخارجي , سواء تعلق ذلك ببناء مشروع اقتصادي , أو تكوين تآلف سياسي داخلي , أو إجراء تعديلات في الهياكل الحكومية والإدارية . إن التبعية تعني أن النظام لا يسير ولا يتغير إلا بحسب ما يتفق ذلك مع مصالح الدول الكبرى وحاجاتها واستراتيجياتها . وهذا ما يشجع , أيضا , النظم والمصالح القائمة علي عدم الالتفات إلي المشاكل الداخلية الحقيقية , ويفقدها الشعور بالحاجة إلي الشرعية والقبول والتأييد الداخلي , وبالتالي يبعدها عن فكرة الإصلاح ويفاقم ميولها نحو الفساد والتحلل .
وإذا كانت الديمقراطية تعني التعبير الصادق , علي مستوي السلطة والسياسة العامة للدولة , عن الإدارة القومية , بما تشتمل عليه من تنوع وتباين في المصالح , فإنه ليس من المبالغة أن نقول إن الديمقراطية غير ممكنة في حال غياب السيادة , بمعني التحكم النسبي للجماعة بمصيرها المادي والمعنوي . والحال أن مثل هذا التحكم أصبح اليوم غير ممكن في إطار الأقطار الصغيرة التي لا تستطيع مهما فعلت أن تؤمن لنفسها شروط الاستثمارات الاقتصادية الضرورية لاستقلالها. ومن هنا يمكن القول إنه إذا كان شرط تحقيق الديمقراطية الأول هو تأمين السيادة, فإن هذه الأخيرة تبقي مستحيلة بالنسبة إلي الأقطار الصغيرة من دون بناء إطار التعاون الواسع والتكتل السياسي علي مستوي التجمعات الكبري.
وليس هناك وسيلة لمواجهة الأزمة الاقتصادية وإخفاق عملية الإقلاع الاقتصادي غير توسيع إطار الاستثمار الحضاري لجعله أكثر مردودية وعقلانية . ولعل من الأسباب الرئيسية لتردد الجمهور الواسع في الالتحام بحركة الديمقراطية وحقوق الإنسان , إدراكه انغلاق أفق العمل السياسي والمدني الفعال وانسداده , في نطاق التشكيلات الراهنة المفتقرة إلي الحد الأدنى من السيطرة علي شروط إنتاج حياتها ومصيرها المادي والسياسي ذاته , أي , بمعني آخر , إدراكه حقيقة أن الاستثمارات الحضارية لم تعد مجدية في هذه الدوائر الصغيرة والتابعة للتقسيم والتوزيع الراهن للقوي والطاقات والعناصر البشرية والمادية . ومن المحتمل أن تبقي جميع التراكمات والمكتسبات الفكرية والسياسية والاقتصادية التي تحصل من دون هذا التغيير الاستراتيجي الأول معرضة , باستمرار وفي كل لحظة , للإجهاض .
وهذا هو الطريق الوحيد لمواجهة الأسباب العميقة للأزمة وفتح الآفاق والآمال الجديدة أما الشعوب العربية اليائسة . وينبغي للنموذج الأوروبي الشرقي ألا يبهرنا , فنحن لا ندخل ضمن نطاق التغيير العالمي الذي دفع إليه , وليست منطقتنا من المناطق التي تعد للانفراج العام والاستثمار الدولي . فهي لا تزال ترزح تحت ثقل صراعات عنيفة داخلية وخارجية وعربية – عربية, إضافة إلي الصراع العربي – الإسرائيلي الذي يمنع الغرب عموما, بما في ذلك الاتحاد السوفياتي, من المراهنة علي مثل هذه التهدئة الإقليمية والانفراج العام . يضاف إلي ذلك أن الدول الصناعية لا تري في بلداننا شعوبا تنطبق عليها القيم والحقوق الإنسانية بقدر ما تري فيها نفطا وأسواقا ومصادر للمواد الأولية. وهي مستعدة لأن تغض نظرها عن كل ما يحدث فيها طالما أنها تستطيع أن تنفذ بسهولة إلي هذه الموارد , بل أنها لا تعتقد أن سيطرتها المطلقة عليها أو علي بعضها , عن طريق تحكيم فئات لا شعبية ومعزولة ومستبدة بها , هو شرط استمرار قدرتها علي الاستملاك المطلق لهذه الموارد .
لقد ساهم الانفراج الدولي الراهن , من دون شك , في فتح ثغرة في جدار الاستبداد العام , وعلي المستوي العالمي , انتقل جزئيا إلي الوطن العربي . وهذا ما يفسر ما شهدناه من تراجع في اليمن الديمقراطية عن حكم الحزب الواحد , وانفتاحها علي التعددية , ومن عودة الحياة البرلمانية في الأردن , وتنشيط الحوار حول إعادة توطين البرلمانية والتعددية في الكويت والعراق وسوريا . ويمكن القول إن الثروة الديمقراطي في بلدان أوروبا الشرقية قد جاءت لتسرع , بقوة , وتيرة التقدم الديمقراطي , ولتنهي شرعية وجود نظام سياسي آخر بديل للنظام الديمقراطي والتعددي في العالم لممارسة السلطة . ومن المعروف أن أنظمة الاستبداد الحديثة غطت نفسها , شرعيا , بشكل أساسي في أقطار العالم الثالث بالمثال السوفياتي وثماره التنموية , وبالحجج العقلية التي كانت تقدمها الماركسية السوفياتية لتبرير انعدام الديمقراطية . وهذا يعني أن أي نظام استبدادي لن يستطيع منذ الآن أن يظهر كنظام معبر عن مصالح الطبقات العاملة أو عن نمط تنمية تاريخي أثبت قوته وجدارته . وهذا يعني أن الديمقراطية قد تحولت إلي قيمة عالمية ثابتة وواحدة . وهو مصدر تأييد حاسم لكل الميول والتوجهات الديمقراطية والتعددية في الوطن العربي والعالم أجمع . إن ما تغير هو مناخ عام أدي إلي ارتفاع في قيمة المبادئ الديمقراطية ومصداقيتها . ولكن هذا لن يمس , بالنسبة إلي الوطن العربي , الأسس الرئيسية للاستبداد .
لكن مواجهة المشاكل الناجمة عن صعوبات الانتقال , والصدمات الناشئة عن الصراع حول المشاركة , والخوف من انفلات الفوضي أو الانفجارات الطائفية , وانهيار التوازنات الكبرى السياسية والاجتماعية بشكل عام , تستدعي أكثر فأكثر تكوين وسيط عام بين البلدان والمجتمعات , أي تكوين هيئة عربية متميزة , من الشخصيات الوطنية والفكرية التي تحظى بالاحترام العام والتقدير والثقة لأعمالها ونشاطها وتاريخا , قادرة علي التدخل هنا وهناك لتقريب وجهات النظر ومنع الصدام . ومن الضروري ألا يكون لدي أعضاء مثل هذه الهيئة طموحات سياسية مباشرة , تتعلق بالسلطة في بلادهم , وأن يتصرفوا علي أساس تمثيل المصلحة العامة , العربية والوطنية . وفي اعتقادي أنه من الممكن لهذه الهيئة أن تلعب دورا كبيرا اليوم في تقديم الضمانات والتطمينات لأطراف يخشي كثيرا بعضها البعض , وكذلك في دفع عملية التفاوض العام التي لا بد من أن تبدأ , وبشكل جدي بين مختلف الأطراف , والتي ستمهد لإقامة التوازنات السياسية المقبلة في الوطن العربي . إن العديد من الانحباسات التي تمنع النظم من التقدم في اتجاه التعددية , ناجمة عن القطعية بين الدولة والمجتمعات والانعدام الخطير للثقة في ما بينها . ولا بد من أن تصبح المؤتمرات العلمية والندوات التي تشارك فيها جميع القوي وفي مقدمتها قوي المعارضة , وسيلة لتطوير فهمنا وطرحنا للمشاكل العامة والحلول الجماعية التي نحتاج إليها . فليس هناك اليوم أي حل حقيقي للمشاكل الكبرى من دون تعاون شامل بين المعارضات والحكومات , وبين البلدان العربية مجتمعة .
هذه النقائض و التناقضات, مجتمعة, هي التي تفسر الوضع الذي نعيشه حركة الديمقراطية وحقوق الإنسان اليوم في الوطن العربي, والذي يتميز بسمتين أساسيتين, السمة الأولي: فقدان العمق الشعبي , مما يجعلها تنحصر في الأوساط المثقفة والسياسية من جهة , ويدفع قوي الاحتجاج الشعبية المتزايدة نحو الانخراط في المشاريع السياسية الثورية والتمردية والعنيفة . والسمة الثانية : السطحية والهشاشة النظرية والسياسية معا , الأمر الذي يعطيها طابع الشعار المستخدم للاستهلاك والغش المتبادل أكثر مما يحولها إلي قيمة إنسانية كبري تلهم سلوكا فرديا وجماعيا ويتحكم إليها وبها . ومن هنا انعدام الحماس للعمل الديمقراطي وحقوق الإنسان المرتبطة به بين صفوف الجمهور الواسع . وما كان من الممكن والحال هذه أن يأخذ هذا الجمهور حركة بهذا القدر من الهزال والضعف والتناقض وعدم الاتساق مأخذ الجد , لهذا لم تستطيع الديمقراطية أن تتحول إلي حركة فكرية وسياسية حقيقية تنقد صورة النخبة الاجتماعية عموما في مخيلة الرأي العام مما أصابها من تهلهل وتراجع . فقد بقيت , مثلها مثل فكرة حقوق الإنسان , فكرة سياسية عامة . ولم تنجح حتي في الأقطار التي تجاوزت فيها كل ما سبقها , في بلورة برنامج اجتماعي حقيقي يطمئن الرأي العام إلي أن هناك تغييرا حقيقيا في نمط ممارسة السلطة , وأن هذا التغيير , إذا وجد , يمكن أن يفتح آفاقا جديدة ويزيد من فرص تطوير شروط إرضاء الحاجات الأساسية التي أسقطت شرعية النظم السابقة بسبب عجزها عن إرضائها . ويزيد من تأثير ذلك استمرار الصراع حول مضمون المشاركة السياسية وتفاقم تناقضات النخب السياسية وصراعاتها في ما بينها . وكل ذلك يعمق الشعور بعدم وضوح المشروع الديمقراطي ويضعف صدقيته , ويزيد الاعتقاد بإخفاق النخبة الاجتماعية في بلورة رؤية واضحة للعمل السياسي المقبل .
فعلي ماذا يمكننا , إذا , المراهنة من أجل معالجة هذا النقص ودفع المسيرة الديمقراطية إلي آفاق جديدة في المجتمعات العربية ؟
يستدعي العمل لتطوير حركة الديمقراطية وحقوق الإنسان في الوطن العربي , وهما في الواقع حركة واحدة , مواجهة المشاكل الرئيسية التي تحدثنا عنها , والسعي إلي إيجاد الحلول العلمية لها . وإذا كان بعضها يتعلق بالعمل علي المدي الطويل وبالنفس الطويل . فإن البعض الأخر يفترض تدخلات مباشرة , موضوعية , وسريعة . ويقتضي هذا العمل , في جميع الحالات , محاربة روح اليأس والتثبيط والإحباط التي تقود إلي مواقف التطرف والتمرد الأعمى والعمومي المجرد وزرع روح المعالجة العقلانية والمرنة مكانها لدي النخبة والجمهور معاً .
لكن , قبل كل شيء , ينبغي علي جميع أطراف المعارضة أن تدرك حقيقة المشاكل المطروحة وجديتها , حتي تستطيع أن تعمل بمستوي المسؤولية الوطنية والقومية , وألا بتحول سلوكها إلي مجرد رد فعل وتكذيب للسلطة والحكم . فمشكلة الأمن القومي , الخارجي والداخلي , وهشاشة الدولة والنظام العام , والمأزق الاقتصادي والانقسام الخطير في الرأي العام , ليست مشاكل مصطنعة ولا شكلية في نظرنا , ولكن الحلول التي تقدمها لها الأنظمة الراهنة حلول خاطئة , لا تستطيع أن تفيد فيها , وهي التي ينبغي مواجهتها وتقديم بديل لها . إنها تحاول إنقاذ المريض بقطع يده , أو خنقه بل قتلة , فلا هي تنجح في اختراع الدواء الذي يحتاج إليه , ولا هي تقبل بتركه يبحث في مكان آخر , وهكذا تبقي التعددية والديمقراطية مؤجلة , تماما مثلما يبقي مصير الدولة ذاته معلقا . ولكن إذا لم تعرف المعارضة بجدية المشاكل القائمة فلن تستطيع أن تحظي بالصدقية , وسوف ينظر إليها باستمرار كالطفل المتمرد وليس كالراشد القادر علي تحمل المسؤولية .
ففي ما يتعلق بالأمن القومي , أي الخارجي , لا يمكن حماية الدولة من التدخلات الأجنبية ولا الضغوط الخارجية المستمرة بمنع الحريات وتخليد الاستبداد , أي بإلغاء الحياة الاجتماعية والسياسية , كما هو حاصل اليوم , ولكن في العمل علي إزالة أسباب الهشاشة الأمنية للدولة . وهذا يعني علي المدي الطويل , وفي ما يتعلق بالإطار العام والأهم للبنية الجغرا – سياسية , ليس المطلوب تغيير المكان بالطبع , ولا توسيع الحدود واكتساب المواقع علي حساب البلدان العربية المجاورة , وهي نوع من الحلول الخاطئة الأخري , ولكن تجاوز العقبات المختلفة التي تمنع التفاهم العربي من أجل بناء نظام أمني مشترك . فليس هناك , علي المدي الطويل , إي أمل في توطين الديمقراطية الحقيقية في المجتمعات العربية دون بناء الدولة الاتحادية التي تستطيع وحدها أن تحمل عبء الموقع والمكانة والثروة التي نعيش عليها . وفي هذه الحالة يصبح الموقع الاستراتيجي العربي سلاحا بقدر ما هو اليوم نقطة الضعف الأولي . وهذا يعني بذل الجهد الدائم من أجل إنهاء النزاعات والخلافات العربية – العربية , وتعميق لحمة التعاون والترابط علي مستوي الأمن القومي , وجعل فكرة الوحدة العسكرية والسياسية الخارجية مطلبا عاما للسنوات المقبلة لدي كل أطراف النخبة العربية . وليس هناك أقل من ذلك في نظري لوضع القاعدة الحقيقية للاستقرار الذي يشكل الأرضية والتربة الأولية لنشوء الاستقرار الداخلي . وينبغي ألا تلهينا التجمعات الصغيرة والشكلية عن الوحدة العربية أو الاتحاد العربي . فليس بإمكان هذه التجمعات حسم موضوع التنازع والتنافس العربي , بل إنما يمكن أن تتحول هي نفسها إلي مصدر جديد لبذر الخلاف والفرقة . حتي دون ذلك , ليس من الممكن تجاوز الحساسيات بين البلدان العربية وخشيتها بعضها من البعض الآخر , إلا بوضعها جميعا في إطار نظام عام وواحد للأمن , يشعر فيه الجميع , أقطارا وشعوبا , بأن أمن كل منها يتوقف علي أمن الآخر ويدعمه .
وترتبط بمسألة الوحدة والاتحاد مسائل العمل لتجاوز التناقضات والأزمات الاقتصادية والاجتماعية والعقائدية والسياسية جميعا . فبقدر ما تحرك التبعية السلطة من إمكانية الاستقلال بسياستها , وترجمتها إلي المصالح الاجتماعية الحقيقية , والإدارة القومية في برنامج عملها , تضطرها في كل حركة ومشروع لأن تضع في اعتبارها أولا العامل الخارجي , سواء تعلق ذلك ببناء مشروع اقتصادي , أو تكوين تآلف سياسي داخلي , أو إجراء تعديلات في الهياكل الحكومية والإدارية . إن التبعية تعني أن النظام لا يسير ولا يتغير إلا بحسب ما يتفق ذلك مع مصالح الدول الكبرى وحاجاتها واستراتيجياتها . وهذا ما يشجع , أيضا , النظم والمصالح القائمة علي عدم الالتفات إلي المشاكل الداخلية الحقيقية , ويفقدها الشعور بالحاجة إلي الشرعية والقبول والتأييد الداخلي , وبالتالي يبعدها عن فكرة الإصلاح ويفاقم ميولها نحو الفساد والتحلل .
وإذا كانت الديمقراطية تعني التعبير الصادق , علي مستوي السلطة والسياسة العامة للدولة , عن الإدارة القومية , بما تشتمل عليه من تنوع وتباين في المصالح , فإنه ليس من المبالغة أن نقول إن الديمقراطية غير ممكنة في حال غياب السيادة , بمعني التحكم النسبي للجماعة بمصيرها المادي والمعنوي . والحال أن مثل هذا التحكم أصبح اليوم غير ممكن في إطار الأقطار الصغيرة التي لا تستطيع مهما فعلت أن تؤمن لنفسها شروط الاستثمارات الاقتصادية الضرورية لاستقلالها. ومن هنا يمكن القول إنه إذا كان شرط تحقيق الديمقراطية الأول هو تأمين السيادة, فإن هذه الأخيرة تبقي مستحيلة بالنسبة إلي الأقطار الصغيرة من دون بناء إطار التعاون الواسع والتكتل السياسي علي مستوي التجمعات الكبري.
وليس هناك وسيلة لمواجهة الأزمة الاقتصادية وإخفاق عملية الإقلاع الاقتصادي غير توسيع إطار الاستثمار الحضاري لجعله أكثر مردودية وعقلانية . ولعل من الأسباب الرئيسية لتردد الجمهور الواسع في الالتحام بحركة الديمقراطية وحقوق الإنسان , إدراكه انغلاق أفق العمل السياسي والمدني الفعال وانسداده , في نطاق التشكيلات الراهنة المفتقرة إلي الحد الأدنى من السيطرة علي شروط إنتاج حياتها ومصيرها المادي والسياسي ذاته , أي , بمعني آخر , إدراكه حقيقة أن الاستثمارات الحضارية لم تعد مجدية في هذه الدوائر الصغيرة والتابعة للتقسيم والتوزيع الراهن للقوي والطاقات والعناصر البشرية والمادية . ومن المحتمل أن تبقي جميع التراكمات والمكتسبات الفكرية والسياسية والاقتصادية التي تحصل من دون هذا التغيير الاستراتيجي الأول معرضة , باستمرار وفي كل لحظة , للإجهاض .
وهذا هو الطريق الوحيد لمواجهة الأسباب العميقة للأزمة وفتح الآفاق والآمال الجديدة أما الشعوب العربية اليائسة . وينبغي للنموذج الأوروبي الشرقي ألا يبهرنا , فنحن لا ندخل ضمن نطاق التغيير العالمي الذي دفع إليه , وليست منطقتنا من المناطق التي تعد للانفراج العام والاستثمار الدولي . فهي لا تزال ترزح تحت ثقل صراعات عنيفة داخلية وخارجية وعربية – عربية, إضافة إلي الصراع العربي – الإسرائيلي الذي يمنع الغرب عموما, بما في ذلك الاتحاد السوفياتي, من المراهنة علي مثل هذه التهدئة الإقليمية والانفراج العام . يضاف إلي ذلك أن الدول الصناعية لا تري في بلداننا شعوبا تنطبق عليها القيم والحقوق الإنسانية بقدر ما تري فيها نفطا وأسواقا ومصادر للمواد الأولية. وهي مستعدة لأن تغض نظرها عن كل ما يحدث فيها طالما أنها تستطيع أن تنفذ بسهولة إلي هذه الموارد , بل أنها لا تعتقد أن سيطرتها المطلقة عليها أو علي بعضها , عن طريق تحكيم فئات لا شعبية ومعزولة ومستبدة بها , هو شرط استمرار قدرتها علي الاستملاك المطلق لهذه الموارد .
لقد ساهم الانفراج الدولي الراهن , من دون شك , في فتح ثغرة في جدار الاستبداد العام , وعلي المستوي العالمي , انتقل جزئيا إلي الوطن العربي . وهذا ما يفسر ما شهدناه من تراجع في اليمن الديمقراطية عن حكم الحزب الواحد , وانفتاحها علي التعددية , ومن عودة الحياة البرلمانية في الأردن , وتنشيط الحوار حول إعادة توطين البرلمانية والتعددية في الكويت والعراق وسوريا . ويمكن القول إن الثروة الديمقراطي في بلدان أوروبا الشرقية قد جاءت لتسرع , بقوة , وتيرة التقدم الديمقراطي , ولتنهي شرعية وجود نظام سياسي آخر بديل للنظام الديمقراطي والتعددي في العالم لممارسة السلطة . ومن المعروف أن أنظمة الاستبداد الحديثة غطت نفسها , شرعيا , بشكل أساسي في أقطار العالم الثالث بالمثال السوفياتي وثماره التنموية , وبالحجج العقلية التي كانت تقدمها الماركسية السوفياتية لتبرير انعدام الديمقراطية . وهذا يعني أن أي نظام استبدادي لن يستطيع منذ الآن أن يظهر كنظام معبر عن مصالح الطبقات العاملة أو عن نمط تنمية تاريخي أثبت قوته وجدارته . وهذا يعني أن الديمقراطية قد تحولت إلي قيمة عالمية ثابتة وواحدة . وهو مصدر تأييد حاسم لكل الميول والتوجهات الديمقراطية والتعددية في الوطن العربي والعالم أجمع . إن ما تغير هو مناخ عام أدي إلي ارتفاع في قيمة المبادئ الديمقراطية ومصداقيتها . ولكن هذا لن يمس , بالنسبة إلي الوطن العربي , الأسس الرئيسية للاستبداد .
لكن مواجهة المشاكل الناجمة عن صعوبات الانتقال , والصدمات الناشئة عن الصراع حول المشاركة , والخوف من انفلات الفوضي أو الانفجارات الطائفية , وانهيار التوازنات الكبرى السياسية والاجتماعية بشكل عام , تستدعي أكثر فأكثر تكوين وسيط عام بين البلدان والمجتمعات , أي تكوين هيئة عربية متميزة , من الشخصيات الوطنية والفكرية التي تحظى بالاحترام العام والتقدير والثقة لأعمالها ونشاطها وتاريخا , قادرة علي التدخل هنا وهناك لتقريب وجهات النظر ومنع الصدام . ومن الضروري ألا يكون لدي أعضاء مثل هذه الهيئة طموحات سياسية مباشرة , تتعلق بالسلطة في بلادهم , وأن يتصرفوا علي أساس تمثيل المصلحة العامة , العربية والوطنية . وفي اعتقادي أنه من الممكن لهذه الهيئة أن تلعب دورا كبيرا اليوم في تقديم الضمانات والتطمينات لأطراف يخشي كثيرا بعضها البعض , وكذلك في دفع عملية التفاوض العام التي لا بد من أن تبدأ , وبشكل جدي بين مختلف الأطراف , والتي ستمهد لإقامة التوازنات السياسية المقبلة في الوطن العربي . إن العديد من الانحباسات التي تمنع النظم من التقدم في اتجاه التعددية , ناجمة عن القطعية بين الدولة والمجتمعات والانعدام الخطير للثقة في ما بينها . ولا بد من أن تصبح المؤتمرات العلمية والندوات التي تشارك فيها جميع القوي وفي مقدمتها قوي المعارضة , وسيلة لتطوير فهمنا وطرحنا للمشاكل العامة والحلول الجماعية التي نحتاج إليها . فليس هناك اليوم أي حل حقيقي للمشاكل الكبرى من دون تعاون شامل بين المعارضات والحكومات , وبين البلدان العربية مجتمعة .
رد: حقوق الإنسان العربي
ولا بد لمثل هذا التوجه من أن يساهم في تعميق الإيمان بالقيم الديمقراطية والقضاء علي الشعور المثبط والقائل بأن الدولة والوطن والحكومة إرث شخصي , ثابت ودائم لفئة أو لفريق من السكان , وأن يطور العمل علي تربية النخبة الاجتماعية وحل تناقضاتها ودفعها نحو تجاوز نفسها وحزازاتها وإخراجها من عقدها التقليدية حتي يمكن لها أن تشكل نواة يعتمد عليها في تطبيق برنامج الإصلاح الديمقراطي . فمن دون هذه النخبة ستظل الديمقراطية مفتقرة إلي القوة الاجتماعية , ورهينة للقوة العسكرية التي تؤلف حتي اليوم – بما في ذلك البلدان التي تبنيت النظام التعددي – الضامن الحقيقي للدولة والسيادة . وهذا يعني كذلك المساعدة علي تحرير النخبة من هيمنة الدولة وحمايتها من استراتيجيات الإفساد والاحتواء والتقسيم التي تعتمدها إزاءها .كما يعني قطع الطريق علي تحويل الوعود الديمقراطية إلي ورقة ابتزاز جديدة للمعارضة أو للرأي العام , كما هي الحال الآن في كثير من المواقع , ومن ثم القضاء علي معناها ومضمونها والفائدة المرجوة منها , وهي قبل كل شيء إشراك الشعب ودفعه نحو الاشتراك في تقرير مصيره , كوسيلة لحفزه علي التضحية , ومن ثم علي مواجهة الأزمة الراهنة والمشاكل الصعبة والمعقدة التي ليس من الممكن – من دون مشاركته في المسؤولية والتضحيات الواعية – حلها والخروج منها . وهذا هو الطريق الوحيد لتجنب مخاطر الانفجار والعصيان والتمرد , ومن ثم تدمير الذاتي والاقتتال والحروب الأهلية . إن الديمقراطية التي لا تقود إلي دفع الشعوب إلي الانخراط في السياسية والمسؤولية العامة , وحثها علي تفجير منابع التضحية والبذل والعمل لديها , لا قيمة لها , وهي – كما يقال – مثل قلتها . فالمجتمعات ليست بحاجة إلي واجهات جديدة شكلية بقدر ما هي بحاجة إلي آليات عمل وتنظيم وممارسات جديدة , وإلا فإن النتيجة ستكون أخطر من عدم التغيير , أي الإحباط والغل , إضافة إلي الشعور بالحرمان والفشل والظلم .
ولا بد في هذا المجال من تجاوز الصراع الراهن والمدمر بين أطراف النخبة العلمانية والدينية حتي يمكن جعل كل النضال والعمل السياسي ويجري في نطاق الشرعية . وليس من الممكن للديمقراطية أن تترسخ إذا بقيت القوي السياسية الأكبر تعيش خارج الشرعية أو تعمل ضدها . وعلي النجاح في تحويل القسم الأكبر من العمل السياسي إلي عمل شرعي , وتحت مظلة الشرعية , يتوقف أيضا استقرار الدولة وتزايد قدرتها علي مواجهة المشاكل الأخرى الاقتصادية والاجتماعية . ويقتضي هذا توسيع دائرة النقاش وتداول الرأي بين الجميع , والتواصل إلي اتفاقات حقيقية تتيح للأطراف المستبعدة عن السلطة الدخول فيها , كما تضمن للدولة الاستقرار والقوة اللازمين لصيانة الشرعية وتطبيق القانون ومنع الفوضي أو تعريض السيادة والأمن للتهديد .
وإذا كان الخوف من انقضاض الجماعات غير الديمقراطية جديا ومشروعا , فإن مقاومة هذا الخطر لا يمكن أن تتحقق عن طريق إفراغ الديمقراطية نفسها من أي مضمون والحد من المشاركة . فتهميش القوي السياسية والجماعات وعزلها هو الذي يؤسس لديها مشروعية الانقضاض علي السلطة وينمي لديها النزوعات الاستبدادية , ويفقدها الشعور بالمسؤولية العمومية , تماما كما حصل لدينا في العقود الماضية في العديد من الأقطار والحالات .لكن , في المقابل , يمكن من خلال دفع هذه الجماعات إلي المشاركة الإيجابية في المسؤوليات الوطنية والحياة السياسية , وكذلك من خلال تحويل الديمقراطية نفسها إلي مشروع للتغيير الاجتماعي والإصلاح , تشجيع النزوعات السلمية والتخفيف من حدة التفاوت الذي يقود إلي تغذيها بالجمهور الثائر والمتبرم .
إن الحل الحقيقي لمخاطر الانفتاح يمكن إذا علي العكس , في استغلال الفرص التي تقدمها الديمقراطية , وفي المراهنة علي المشاعر السلمية , والتفاؤل النسبي الحالي وروح الهدنة الوطنية , من أجل جعل المشاركة السياسية وسيلة لإغراء جميع الأطراف بالعمل في إطار الشرعية والمراهنة عليها . وفي هذه الحالة لن تلعب الحركات الدينية دورا بناء فقط من خلال ترسيخها الثقة في النفس والشعور بالهوية في حقبة اهتزاز خطير في الشخصية الوطنية , والتردد والحيرة والانتظار , ولكنها تساهم أكثر من ذلك في بلورة آلية التسوية الشرعية للمشاكل والتوترات الاجتماعية , أي في التحول إلي قناة لاستيعاب وعقلنه التوترات الاجتماعية , وتسهيل التعامل بها سياسيا , ومن أفق التفاهم السلمي والوطني ومعاييره , بدل أن تنفجر في شكل انتفاضات دموية لا وعي لها ولا هدف .
وإذا تحولت الحريات إلي موضوع مساومات , قضت علي شرعية الديمقراطية ذاتها , بما هي تجسيد لمبدأ الإدارة الشعبية التي هي مصدر السياسية والقانون , وهددت الأساس الفكري الذي تقوم عليه , أي تحويل إمكانية تداول السلطة والمراهنة عليها كقاعدة ممكنة لبناء نظام سياسي يضمن المساواة والسلام الأهلي والعدل , وفي هذه الحالة تصبح التعددية شكلا من دون مضمون , ولن تستطيع أن تكون ملهمة لا للنخبة ولا للشعب , أي سوف تفقد صدقيتها وقيمتها كمصدر لشرعية جديدة للنظام المدني . ومن الأفضل للحكم ألا يدخل نفسه في إشكالية التعددية والديمقراطية أبدا علي أن يحولها إلي تكتيك لشن الحرب السياسية , ومن ثم إلي مناسبة لزيادة الانقسام والتوتر وروح الانتقام بدل أن يجعل منها إطارا لكسب إجماع جديد ووحدة وطنية لا غني عنهما للخروج من الأزمة الراهنة , وإذا لم تستطيع الديمقراطية أن تنتزع من أعدائها ورقة الشرعية والاحتكام الحقيقي للرأي العام فلن تستطيع أبدا أن تكون أساسا لبناء نظام شرعي , ولن تفيد إلا في زيادة المشاكل والتناقضات التي يعيشها النظام الراهن . فالديمقراطية الناقصة أخطر علي النظام من الدكتاتورية ذاتها .
وبالمثل , لا يمكن مواجهة مخاطر الانفجار بعزل النخبة وإضعاف نفوذ المعارضة , ولكن بمواكبة التعددية بإصلاحات اجتماعية جدية وعاجلة تخفف من الضغط الاجتماعي والتفاوت في المداخيل وتفاقم البطالة وانعدام الأمل واليأس من المستقبل عند الأجيال الشابة . إن موضوع الأساسي للقسم الأعظم من المجتمع ليس التغني بالحريات , ولكن تأمين الشروط الأساسية للحياة , المادية أولا المعنوية أيضا . فالحرية لا تصبح ذات قيمة ومعني إلا عندما يكون المواطن قد حقق الحد الأدنى من شروط بقائه المادية . لذلك فهي مرتبطة بالمجتمعات المدنية الإنسانية . إن الشعب الجائع لا يهمه حرية الكتابة والصحافة والتنظيم الحزبي . وهذا الجوع بالمعني العام , أي الحاجة المادية المتزايدة وغير المشبعة , ومن ملبس ومسكن ومأكل , هي التي تفسر انهيار الحياة السياسية في بلداننا وما يتبعه من انحسار للحياة الحزبية وتوجه الجمهور أكثر فاكثر نحو تيارات الثورة والاحتجاج المناهض للشرعية , فإذا لم تنجح الديمقراطية في حل هذه الأمور الأساسية المتعلقة بشروط المعيشة اليومية , فمن السهل أن تتحول إلي عقيدة المثقفين أو النخبة الضئيلة , التي تستخدمها لترسيخ سيطرتها ووحدتها وتهميش الأغلبية الاجتماعية وعزلها . وفي هذه الحال فإن الديمقراطية يمكن أن تقود كما كانت عليه الحال بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة , في النظام الليبرالية العربية الأول , إلي نظام للتمييز واحتكار السلطة من قبل فئات محدودة . وعندئذ لن يكون مستقبل ديمقراطيتنا الراهنة مختلقا عن الأولي .
إن الأمر يتعلق بمصير الجماعات الكبري التي تقع في منزلة بين منزلتين , بين البربرية والمدنية , والتي تهدد الجماعات الأخري التي بنيت لنفسها مكانة محدودة في هذا النظام , بأن تنغص عليها حياتها ووجودها بشكل لا يطاق . ولم يعد هذا من التكهنات . فقد دخلت مجتمعاتنا في هذا السباق الجديد بكل القوة والاندفاع التاريخيين لمجتمع يفقد السيطرة علي شروط بقائه ونفسه .
وهذا يعني أن الدعوة إلي الديمقراطية والمشاركة السياسية ينبغي ألا تبقي مستقلة عن الدعوة إلي الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي , بل ينبغي أن تكون حافزها وغايتها . وكلاهما يمثل وجها لعملية تغيير اجتماعي سياسي عربي جذري ما زالت معالمه لم تنضج بعد بما فيه الكفاية , لكنه يؤلف المسار الوحيد لحركة التحول التاريخي المقبل الذي نراهن عليه من أجل تحقيق البرنامج الذي لم تستطيع أنظمة الثورة ولا أنظمة الانفتاح البسيط أن تحققه , أي برنامج النهضة الاقتصادية والاجتماعية والانطلاق الصناعي .
ولا بد لنا من أن ندرك أن الديمقراطية ليست تعويضا , ولا يمكن أن تكون بديلا لمعالجة المشاكل الاجتماعية والاقتصادية . وهذا الاختلاط الذي يظهر كما لو أن التعددية سوف تحقق جميع الآمال . هو الذي يدفع بعض من في السلطة إلي ما يشبه الاستقالة السياسية كما يدفع بعض من في المعارضة والرأي العام إلي الهياج والاعتقاد بأن مشاركته في السلطة سوف تكون بداية حل لكل المشكلات العالقة الكبري. وفي الحالتين ليس الخاسر إلا السياسية , أي فقدان النظرة المتأنية وروح المسؤولية الضرورية لتسيير شؤون الأمة وعدم دفعها نحو الآمال الكاذبة . فمثل هذا السلوك لا يمكن إلا أن يعمق من سوء التفاهم العام بين جميع الأطراف الاجتماعية بقدر ما يثير من آمال متباينة وتطلعات متعددة غالبا ما تكون متناقضة, ويخلق رهانات شاملة وغير محددة تهدد بأن يدفع العديد من الفئات الاجتماعية التي حملت بالديمقراطية وانتظرت قدومها بفارغ الصبر إلي الإحباط السريع.
إن كل ما يمكن أن تقدمه الديمقراطية هو الإطار الشرعي والعملي السلمي لمواجهة المشاكل وإيجاد أفضل الشروط لبلورة حلول عقلانية لها. فهي لا تحل تلقائيا مسألة الصراع العقائدي ولا التناحر بين الطوائف, ولا قضية التنمية ولا التفاوت في مستويات المعيشة, والمهم أن يستفيد المجتمع من مناخ الديمقراطية وأطرها القانونية والسلمية لتحقيق تسويات اجتماعية وسياسية جديدة ومعبرة عن مصالح الجماعات بالعدل, وليس في الاستسلام أو التسليم بأن ذلك يحدث من تلقاء نفسه. ومن هنا فإن التقدم نحو الديمقراطية لا بد من أن يواكبه تغيير السياسات الاجتماعية والاستراتيجيات التقليدية التي اتبعها معظم الحكومات العربية في العقود الماضية. وربما كان فشل الأنظمة العربية في فتح آفاق جديدة للتنمية والتطوير الاقتصادي هو اليوم من أكبر المخاطر التي تهدد الانتقال الديمقراطي علي الرغم من محدوديته.
وهذا يستدعي, وفي الإطار نفسه أم يواكب العمل علي تغيير أسلوب الحكم وموقف السلطة, العمل بالقدر ذاته في أوساط المعارضة, العلمانية والدينية معا, لدفعها نحو مواقف نظرية وعلمية تتميز بشكل أفضل بروح المسؤولية والتضحية تجاه المجتمع والدولة معا. و ينبغي ألا تبقي مسألة الديمقراطية محصورة, كما هي عليه اليوم, في الصراع العقيم بين نخبة معارضة لا تفكر إلا بسحب البساط من تحت أقدام الحكم لاحتلال مواقعه, وحكومة ليس همها إلا دحر قوي المعارضة وتضيق الخناق عليها وتصفية مواقعها في المجتمع. فبصرف النظر عما يولده هذا الوضع من الشعور العميق لدي الرأي العام الداخلي والخارجي بانعدام روح المسؤولية الوطنية, فإنه يشكل حرب استنزاف حقيقية للمجتمع والدولة, ويقود لا محالة إلي اهتلاك خطير للقيم السياسية ومعني القيادة والطبقة القائدة نفسها. و لن تعمل الأساليب السائدة اليوم للصراع, والتي تستلهم مبدأ التدمير المتبادل, إلا علي زيادة مخاطر عزل النخبة العاملة عموما في السياسية عن الجسم الحقيقي للأمة, وتشويه صورة الممارسة السياسية وترسيخها كنوع من المنافسة الأنانية والجنونية علي المناصب والمواقع. وهذا من الأسباب الأساسية الأخري التي تفسر ابتعاد كتلة الجمهور الأساسية المتزايد عن جميع الحركات السياسية, وتفاقم الميل لديها إلي إعادة تنظيم نفسها, أي وسائل معيشتها, وأطر تواصلها وقيم تعاملها, خارج السياسية ذاتها, سواء داخل الدين غير السياسي, أو داخل طقوس وتقاليد قديمة أو مستحدثة, تسعي إلي تنميتها وبلورتها بعفوية وتجريبية محضة. وسوف يستمر الحال كذلك طالما بقيت السياسية تعني وتمارس في وسط المجتمع السياسي العربي, بصرف النظر عن العقيدة والهوية السياسية, كمجرد صراع علي السلطة, وظل الجدل الحقيقي الوحيد في مجال السياسة, هو حول الدولة وفي الدولة, أي طالما لم تتحول السياسة إلي اهتمام بالمجتمع ولم تجعل محورها التوجه إليه بما هو تشكيل وتكوين مستقل قانوني وأخلاقي واجتماعي وثقافي , ويشكل الميدان الأول للعمل السياسي ومصدر القوي الروحية والفكرية والمادية الضرورية لإعادة صياغة علاقات السلطة .
ويقتضي هذا أن تتجاوز المعارضة عقدة شعورها بأنها فراغ كامل طالما أنها لم تصب بعد في الدولة , وتسعي إلي المشاركة في تحمل مسؤولياتها , حتي وهي خارج الحكم , في مواجهة المشكلات الأساسية والكبري التي يعانيها المجتمع وتعانيها البلاد , وفي تقديم العون والمساهمات الإيجابية النظرية والعلمية للوصول إلي الإجماعات الضرورية حول المسائل ذات الطبيعة الاستراتيجية والوطنية . و يقتضي كذلك التخلي عن هذا التوجه العميق والخطير للنخبة العاملة في السياسة في المجتمعات العربية, والقائم علي أنه ليس بسياسة كل ما لا يرتبط مباشرة بتقنيات السيطرة المادية علي الدولة القلعة. فالسيطرة علي الدولة تؤلف من دون شك المدخل الأكبر للتأثير في المجتمع, لكن التغيير الاجتماعي الحقيقي لا يأتي أبدا من الدولة ,إنه من صنع الفاعليات الاجتماعية الإبداعية الفكرية والاقتصادية معا , أما الدولة فإنها لا تقوم إلا باستثماره وتوظيفه , حسب الفريق الحاكم , لمصلحة المجموع أو لمصلحة الفئة المسيطرة عليها .
فلا يحتاج تطوير العمل من أجل الديمقراطية إلي دفع الدولة والنظم الحاكمة إلي تغيير سلوكها تجاه المعارضة والمجتمع فحسب, ولكن أيضا وفي الوقت نفسه. دفع المعارضة إلي تطوير نفسها وسلوكها تجاه المجتمع وتعميق حوارها معه. وفي غياب ذلك لن نستطيع أن نخرج من مفهومنا التقليدي للسياسة, والذي يتغذى من فكرة غزو الدولة والسيطرة عليها باعتبارها شرطا لاقتسام الغنيمة. وليست الغنيمة هنا إلا السلطة ذاتها التي تظهر كما لو كانت مكافأة الرابح في امتحان القوة. ومن الضروري أن ندخل في الذهن السياسي العربي من جديد, مفهوم السياسية كإعادة تربية اجتماعية, وإعادة تجديد وترسيخ للأطر العقلية والقانونية والأخلاقية التي تنظم وتوجه وتقود المجتمع والفرد , والاجتهاد النظري والعملي إلي حل مسائل معترف بها وحقيقية . وهذا يعني أيضا أن جزءا كبيرا من المسؤولية في الوصول إلي الوضعية السياسية التي نعيشها اليوم في الوطن العربي يقع علي المعارضة والنخبة المستقلة مثلما يقع علي النخبة الرسمية.
و أخيراً, لا يمكن تطوير حركة الديمقراطية وحقوق الإنسان وجذب الجمهور إليها وتحويلها إلي مدرسة للتربية السياسية والمدنية, وهي الغاية الحقيقية لها, إلا برفع رصيدها الفكري ومقدرتها علي الإنجاز. ويقتضي هذا كشرط أول, توسيع نطاق دائرة العمل الشرعي والعلني. وهو الأمر الذي يتطلب محاربة تقاليد الدولة العربية الثورية التي تنكر معني الشرعية السياسية من الأساس, كما يتطلب محاربة تقاليد الدولة العصبية المعادية للثورة والتي تعتبر السلطة إرثاً أبدياً, ولا تقبل كعمل شرعي إلا ما وافق هيمنة عصبيتها ودعم واحدية سلطتها وثباتها. فعلي عكس العمل الثوري, لا تتطور الديمقراطية والحركة المدنية إلا بقدر تطور ساحة العمل الشرعي. فهي ليست مسلحة ولا تستمد قوتها من العنف الذي يعطيه للحركات الثورية الشعور بالإحباط والانتقام, بل تستمدها – علي العكس من ذلك – من نبع التضحية والمسؤولية والإحسان. ومرجعها الأول والأخير الرأي العام الذي تقوم هي ببنائه, ولا تنمو بقدر نموه واستقلاله, وتحوله إلي مستودع لقيم الحرية والكرامة والإنسانية. فإذا غاب أفق العمل الشرعي وإمكانيته – لسبب أو لآخر – انحسر الحق وانحسرت السياسة, ولم يبق لحسم النزاع إلا المواجهة والعنف.
* المرجع:
حقوق الإنسان العربي1999، برهان غليون، مركز دراسات الوحدة العربية ، ص ص 10-38، سلسلة كتب المستقبل العربي (17).
ولا بد في هذا المجال من تجاوز الصراع الراهن والمدمر بين أطراف النخبة العلمانية والدينية حتي يمكن جعل كل النضال والعمل السياسي ويجري في نطاق الشرعية . وليس من الممكن للديمقراطية أن تترسخ إذا بقيت القوي السياسية الأكبر تعيش خارج الشرعية أو تعمل ضدها . وعلي النجاح في تحويل القسم الأكبر من العمل السياسي إلي عمل شرعي , وتحت مظلة الشرعية , يتوقف أيضا استقرار الدولة وتزايد قدرتها علي مواجهة المشاكل الأخرى الاقتصادية والاجتماعية . ويقتضي هذا توسيع دائرة النقاش وتداول الرأي بين الجميع , والتواصل إلي اتفاقات حقيقية تتيح للأطراف المستبعدة عن السلطة الدخول فيها , كما تضمن للدولة الاستقرار والقوة اللازمين لصيانة الشرعية وتطبيق القانون ومنع الفوضي أو تعريض السيادة والأمن للتهديد .
وإذا كان الخوف من انقضاض الجماعات غير الديمقراطية جديا ومشروعا , فإن مقاومة هذا الخطر لا يمكن أن تتحقق عن طريق إفراغ الديمقراطية نفسها من أي مضمون والحد من المشاركة . فتهميش القوي السياسية والجماعات وعزلها هو الذي يؤسس لديها مشروعية الانقضاض علي السلطة وينمي لديها النزوعات الاستبدادية , ويفقدها الشعور بالمسؤولية العمومية , تماما كما حصل لدينا في العقود الماضية في العديد من الأقطار والحالات .لكن , في المقابل , يمكن من خلال دفع هذه الجماعات إلي المشاركة الإيجابية في المسؤوليات الوطنية والحياة السياسية , وكذلك من خلال تحويل الديمقراطية نفسها إلي مشروع للتغيير الاجتماعي والإصلاح , تشجيع النزوعات السلمية والتخفيف من حدة التفاوت الذي يقود إلي تغذيها بالجمهور الثائر والمتبرم .
إن الحل الحقيقي لمخاطر الانفتاح يمكن إذا علي العكس , في استغلال الفرص التي تقدمها الديمقراطية , وفي المراهنة علي المشاعر السلمية , والتفاؤل النسبي الحالي وروح الهدنة الوطنية , من أجل جعل المشاركة السياسية وسيلة لإغراء جميع الأطراف بالعمل في إطار الشرعية والمراهنة عليها . وفي هذه الحالة لن تلعب الحركات الدينية دورا بناء فقط من خلال ترسيخها الثقة في النفس والشعور بالهوية في حقبة اهتزاز خطير في الشخصية الوطنية , والتردد والحيرة والانتظار , ولكنها تساهم أكثر من ذلك في بلورة آلية التسوية الشرعية للمشاكل والتوترات الاجتماعية , أي في التحول إلي قناة لاستيعاب وعقلنه التوترات الاجتماعية , وتسهيل التعامل بها سياسيا , ومن أفق التفاهم السلمي والوطني ومعاييره , بدل أن تنفجر في شكل انتفاضات دموية لا وعي لها ولا هدف .
وإذا تحولت الحريات إلي موضوع مساومات , قضت علي شرعية الديمقراطية ذاتها , بما هي تجسيد لمبدأ الإدارة الشعبية التي هي مصدر السياسية والقانون , وهددت الأساس الفكري الذي تقوم عليه , أي تحويل إمكانية تداول السلطة والمراهنة عليها كقاعدة ممكنة لبناء نظام سياسي يضمن المساواة والسلام الأهلي والعدل , وفي هذه الحالة تصبح التعددية شكلا من دون مضمون , ولن تستطيع أن تكون ملهمة لا للنخبة ولا للشعب , أي سوف تفقد صدقيتها وقيمتها كمصدر لشرعية جديدة للنظام المدني . ومن الأفضل للحكم ألا يدخل نفسه في إشكالية التعددية والديمقراطية أبدا علي أن يحولها إلي تكتيك لشن الحرب السياسية , ومن ثم إلي مناسبة لزيادة الانقسام والتوتر وروح الانتقام بدل أن يجعل منها إطارا لكسب إجماع جديد ووحدة وطنية لا غني عنهما للخروج من الأزمة الراهنة , وإذا لم تستطيع الديمقراطية أن تنتزع من أعدائها ورقة الشرعية والاحتكام الحقيقي للرأي العام فلن تستطيع أبدا أن تكون أساسا لبناء نظام شرعي , ولن تفيد إلا في زيادة المشاكل والتناقضات التي يعيشها النظام الراهن . فالديمقراطية الناقصة أخطر علي النظام من الدكتاتورية ذاتها .
وبالمثل , لا يمكن مواجهة مخاطر الانفجار بعزل النخبة وإضعاف نفوذ المعارضة , ولكن بمواكبة التعددية بإصلاحات اجتماعية جدية وعاجلة تخفف من الضغط الاجتماعي والتفاوت في المداخيل وتفاقم البطالة وانعدام الأمل واليأس من المستقبل عند الأجيال الشابة . إن موضوع الأساسي للقسم الأعظم من المجتمع ليس التغني بالحريات , ولكن تأمين الشروط الأساسية للحياة , المادية أولا المعنوية أيضا . فالحرية لا تصبح ذات قيمة ومعني إلا عندما يكون المواطن قد حقق الحد الأدنى من شروط بقائه المادية . لذلك فهي مرتبطة بالمجتمعات المدنية الإنسانية . إن الشعب الجائع لا يهمه حرية الكتابة والصحافة والتنظيم الحزبي . وهذا الجوع بالمعني العام , أي الحاجة المادية المتزايدة وغير المشبعة , ومن ملبس ومسكن ومأكل , هي التي تفسر انهيار الحياة السياسية في بلداننا وما يتبعه من انحسار للحياة الحزبية وتوجه الجمهور أكثر فاكثر نحو تيارات الثورة والاحتجاج المناهض للشرعية , فإذا لم تنجح الديمقراطية في حل هذه الأمور الأساسية المتعلقة بشروط المعيشة اليومية , فمن السهل أن تتحول إلي عقيدة المثقفين أو النخبة الضئيلة , التي تستخدمها لترسيخ سيطرتها ووحدتها وتهميش الأغلبية الاجتماعية وعزلها . وفي هذه الحال فإن الديمقراطية يمكن أن تقود كما كانت عليه الحال بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة , في النظام الليبرالية العربية الأول , إلي نظام للتمييز واحتكار السلطة من قبل فئات محدودة . وعندئذ لن يكون مستقبل ديمقراطيتنا الراهنة مختلقا عن الأولي .
إن الأمر يتعلق بمصير الجماعات الكبري التي تقع في منزلة بين منزلتين , بين البربرية والمدنية , والتي تهدد الجماعات الأخري التي بنيت لنفسها مكانة محدودة في هذا النظام , بأن تنغص عليها حياتها ووجودها بشكل لا يطاق . ولم يعد هذا من التكهنات . فقد دخلت مجتمعاتنا في هذا السباق الجديد بكل القوة والاندفاع التاريخيين لمجتمع يفقد السيطرة علي شروط بقائه ونفسه .
وهذا يعني أن الدعوة إلي الديمقراطية والمشاركة السياسية ينبغي ألا تبقي مستقلة عن الدعوة إلي الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي , بل ينبغي أن تكون حافزها وغايتها . وكلاهما يمثل وجها لعملية تغيير اجتماعي سياسي عربي جذري ما زالت معالمه لم تنضج بعد بما فيه الكفاية , لكنه يؤلف المسار الوحيد لحركة التحول التاريخي المقبل الذي نراهن عليه من أجل تحقيق البرنامج الذي لم تستطيع أنظمة الثورة ولا أنظمة الانفتاح البسيط أن تحققه , أي برنامج النهضة الاقتصادية والاجتماعية والانطلاق الصناعي .
ولا بد لنا من أن ندرك أن الديمقراطية ليست تعويضا , ولا يمكن أن تكون بديلا لمعالجة المشاكل الاجتماعية والاقتصادية . وهذا الاختلاط الذي يظهر كما لو أن التعددية سوف تحقق جميع الآمال . هو الذي يدفع بعض من في السلطة إلي ما يشبه الاستقالة السياسية كما يدفع بعض من في المعارضة والرأي العام إلي الهياج والاعتقاد بأن مشاركته في السلطة سوف تكون بداية حل لكل المشكلات العالقة الكبري. وفي الحالتين ليس الخاسر إلا السياسية , أي فقدان النظرة المتأنية وروح المسؤولية الضرورية لتسيير شؤون الأمة وعدم دفعها نحو الآمال الكاذبة . فمثل هذا السلوك لا يمكن إلا أن يعمق من سوء التفاهم العام بين جميع الأطراف الاجتماعية بقدر ما يثير من آمال متباينة وتطلعات متعددة غالبا ما تكون متناقضة, ويخلق رهانات شاملة وغير محددة تهدد بأن يدفع العديد من الفئات الاجتماعية التي حملت بالديمقراطية وانتظرت قدومها بفارغ الصبر إلي الإحباط السريع.
إن كل ما يمكن أن تقدمه الديمقراطية هو الإطار الشرعي والعملي السلمي لمواجهة المشاكل وإيجاد أفضل الشروط لبلورة حلول عقلانية لها. فهي لا تحل تلقائيا مسألة الصراع العقائدي ولا التناحر بين الطوائف, ولا قضية التنمية ولا التفاوت في مستويات المعيشة, والمهم أن يستفيد المجتمع من مناخ الديمقراطية وأطرها القانونية والسلمية لتحقيق تسويات اجتماعية وسياسية جديدة ومعبرة عن مصالح الجماعات بالعدل, وليس في الاستسلام أو التسليم بأن ذلك يحدث من تلقاء نفسه. ومن هنا فإن التقدم نحو الديمقراطية لا بد من أن يواكبه تغيير السياسات الاجتماعية والاستراتيجيات التقليدية التي اتبعها معظم الحكومات العربية في العقود الماضية. وربما كان فشل الأنظمة العربية في فتح آفاق جديدة للتنمية والتطوير الاقتصادي هو اليوم من أكبر المخاطر التي تهدد الانتقال الديمقراطي علي الرغم من محدوديته.
وهذا يستدعي, وفي الإطار نفسه أم يواكب العمل علي تغيير أسلوب الحكم وموقف السلطة, العمل بالقدر ذاته في أوساط المعارضة, العلمانية والدينية معا, لدفعها نحو مواقف نظرية وعلمية تتميز بشكل أفضل بروح المسؤولية والتضحية تجاه المجتمع والدولة معا. و ينبغي ألا تبقي مسألة الديمقراطية محصورة, كما هي عليه اليوم, في الصراع العقيم بين نخبة معارضة لا تفكر إلا بسحب البساط من تحت أقدام الحكم لاحتلال مواقعه, وحكومة ليس همها إلا دحر قوي المعارضة وتضيق الخناق عليها وتصفية مواقعها في المجتمع. فبصرف النظر عما يولده هذا الوضع من الشعور العميق لدي الرأي العام الداخلي والخارجي بانعدام روح المسؤولية الوطنية, فإنه يشكل حرب استنزاف حقيقية للمجتمع والدولة, ويقود لا محالة إلي اهتلاك خطير للقيم السياسية ومعني القيادة والطبقة القائدة نفسها. و لن تعمل الأساليب السائدة اليوم للصراع, والتي تستلهم مبدأ التدمير المتبادل, إلا علي زيادة مخاطر عزل النخبة العاملة عموما في السياسية عن الجسم الحقيقي للأمة, وتشويه صورة الممارسة السياسية وترسيخها كنوع من المنافسة الأنانية والجنونية علي المناصب والمواقع. وهذا من الأسباب الأساسية الأخري التي تفسر ابتعاد كتلة الجمهور الأساسية المتزايد عن جميع الحركات السياسية, وتفاقم الميل لديها إلي إعادة تنظيم نفسها, أي وسائل معيشتها, وأطر تواصلها وقيم تعاملها, خارج السياسية ذاتها, سواء داخل الدين غير السياسي, أو داخل طقوس وتقاليد قديمة أو مستحدثة, تسعي إلي تنميتها وبلورتها بعفوية وتجريبية محضة. وسوف يستمر الحال كذلك طالما بقيت السياسية تعني وتمارس في وسط المجتمع السياسي العربي, بصرف النظر عن العقيدة والهوية السياسية, كمجرد صراع علي السلطة, وظل الجدل الحقيقي الوحيد في مجال السياسة, هو حول الدولة وفي الدولة, أي طالما لم تتحول السياسة إلي اهتمام بالمجتمع ولم تجعل محورها التوجه إليه بما هو تشكيل وتكوين مستقل قانوني وأخلاقي واجتماعي وثقافي , ويشكل الميدان الأول للعمل السياسي ومصدر القوي الروحية والفكرية والمادية الضرورية لإعادة صياغة علاقات السلطة .
ويقتضي هذا أن تتجاوز المعارضة عقدة شعورها بأنها فراغ كامل طالما أنها لم تصب بعد في الدولة , وتسعي إلي المشاركة في تحمل مسؤولياتها , حتي وهي خارج الحكم , في مواجهة المشكلات الأساسية والكبري التي يعانيها المجتمع وتعانيها البلاد , وفي تقديم العون والمساهمات الإيجابية النظرية والعلمية للوصول إلي الإجماعات الضرورية حول المسائل ذات الطبيعة الاستراتيجية والوطنية . و يقتضي كذلك التخلي عن هذا التوجه العميق والخطير للنخبة العاملة في السياسة في المجتمعات العربية, والقائم علي أنه ليس بسياسة كل ما لا يرتبط مباشرة بتقنيات السيطرة المادية علي الدولة القلعة. فالسيطرة علي الدولة تؤلف من دون شك المدخل الأكبر للتأثير في المجتمع, لكن التغيير الاجتماعي الحقيقي لا يأتي أبدا من الدولة ,إنه من صنع الفاعليات الاجتماعية الإبداعية الفكرية والاقتصادية معا , أما الدولة فإنها لا تقوم إلا باستثماره وتوظيفه , حسب الفريق الحاكم , لمصلحة المجموع أو لمصلحة الفئة المسيطرة عليها .
فلا يحتاج تطوير العمل من أجل الديمقراطية إلي دفع الدولة والنظم الحاكمة إلي تغيير سلوكها تجاه المعارضة والمجتمع فحسب, ولكن أيضا وفي الوقت نفسه. دفع المعارضة إلي تطوير نفسها وسلوكها تجاه المجتمع وتعميق حوارها معه. وفي غياب ذلك لن نستطيع أن نخرج من مفهومنا التقليدي للسياسة, والذي يتغذى من فكرة غزو الدولة والسيطرة عليها باعتبارها شرطا لاقتسام الغنيمة. وليست الغنيمة هنا إلا السلطة ذاتها التي تظهر كما لو كانت مكافأة الرابح في امتحان القوة. ومن الضروري أن ندخل في الذهن السياسي العربي من جديد, مفهوم السياسية كإعادة تربية اجتماعية, وإعادة تجديد وترسيخ للأطر العقلية والقانونية والأخلاقية التي تنظم وتوجه وتقود المجتمع والفرد , والاجتهاد النظري والعملي إلي حل مسائل معترف بها وحقيقية . وهذا يعني أيضا أن جزءا كبيرا من المسؤولية في الوصول إلي الوضعية السياسية التي نعيشها اليوم في الوطن العربي يقع علي المعارضة والنخبة المستقلة مثلما يقع علي النخبة الرسمية.
و أخيراً, لا يمكن تطوير حركة الديمقراطية وحقوق الإنسان وجذب الجمهور إليها وتحويلها إلي مدرسة للتربية السياسية والمدنية, وهي الغاية الحقيقية لها, إلا برفع رصيدها الفكري ومقدرتها علي الإنجاز. ويقتضي هذا كشرط أول, توسيع نطاق دائرة العمل الشرعي والعلني. وهو الأمر الذي يتطلب محاربة تقاليد الدولة العربية الثورية التي تنكر معني الشرعية السياسية من الأساس, كما يتطلب محاربة تقاليد الدولة العصبية المعادية للثورة والتي تعتبر السلطة إرثاً أبدياً, ولا تقبل كعمل شرعي إلا ما وافق هيمنة عصبيتها ودعم واحدية سلطتها وثباتها. فعلي عكس العمل الثوري, لا تتطور الديمقراطية والحركة المدنية إلا بقدر تطور ساحة العمل الشرعي. فهي ليست مسلحة ولا تستمد قوتها من العنف الذي يعطيه للحركات الثورية الشعور بالإحباط والانتقام, بل تستمدها – علي العكس من ذلك – من نبع التضحية والمسؤولية والإحسان. ومرجعها الأول والأخير الرأي العام الذي تقوم هي ببنائه, ولا تنمو بقدر نموه واستقلاله, وتحوله إلي مستودع لقيم الحرية والكرامة والإنسانية. فإذا غاب أفق العمل الشرعي وإمكانيته – لسبب أو لآخر – انحسر الحق وانحسرت السياسة, ولم يبق لحسم النزاع إلا المواجهة والعنف.
* المرجع:
حقوق الإنسان العربي1999، برهان غليون، مركز دراسات الوحدة العربية ، ص ص 10-38، سلسلة كتب المستقبل العربي (17).
مواضيع مماثلة
» منظمات حقوق الإنسان تعرب عن القلق من أوضاع حقوق الإنسان في ا
» المدافعون عن حقوق الإنسان مثار تركيز مؤتمر يعقد في 18-20 تمو
» بيان عن العقوبات التي تستهدف منتهكي حقوق الإنسان في إيران
» بيان عن إطلاق مركز موارد حقوق الإنسان لمنطقة آسيان
» الرئيس يشدد على قضية حقوق الإنسان في لقائه الأخير مع نظيره ا
» المدافعون عن حقوق الإنسان مثار تركيز مؤتمر يعقد في 18-20 تمو
» بيان عن العقوبات التي تستهدف منتهكي حقوق الإنسان في إيران
» بيان عن إطلاق مركز موارد حقوق الإنسان لمنطقة آسيان
» الرئيس يشدد على قضية حقوق الإنسان في لقائه الأخير مع نظيره ا
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى