دور القضاء المستقل
نجــــــــــــــــــــــــــــــــــــد :: نجـــــــــد العامـــــــــــــــــــــــــــــــة :: تقارير أمريكية
صفحة 1 من اصل 1
دور القضاء المستقل
دور القضاء المستقل
بقلم فيليبا ستروم
بقلم فيليبا ستروم
"يَعتبر العديد من الحقوقيين في الولايات المتحدة أن المراجعة الدستورية للمحاكم في مجال حقوق الإنسان هي سمة ممّيزة لأمتنا وفخرٌ لها. وأنا أوافق."
روث بايدر غنسبرغ، قاضية المحكمة العليا
طالت كثيراً عملية الانتخابات الرئاسية للعام 2000 في الولايات المتحدة مما أثار ذهول العديدين. جاءت الأصوات المرجّحة للانتخابات من ولاية فلوريدا، وبعد انقضاء يوم الانتخابات بوقت طويل، برزت تساؤلات حول ما إذا كانت أخطاء ميكانيكية قد حالت دون تعداد الأصوات في بعض مراكز الاقتراع بولاية فلوريدا، وحول ما يجب عمله إذا كان قد حصل ذلك فعلاً. اشترك المجلس التشريعي في ولاية فلوريدا، وكذلك عدد من قضاة الولاية في الأمر. ألقت سكرتيرة الولاية في فلوريدا، وكذلك أعضاء في الكونغرس الأميركي، خطباً غاضبة. كذلك تظاهر مؤيدو كلا المرشحين جورج دبليو. بوش وآل غور، في فلوريدا وفي ولايات أخرى منتشرة عبر الولايات المتحدة.
وبينما كان النزاع على أشدّه، رُفعت قضية أمام المحكمة العليا الأميركية حول المسألة. أكّد الحكم الصادر عن المحكمة أن بوش هو فعلياً المنتصر على غور.
وكان هذا نهاية الأمر. ألقى غور خطاباً هنأ فيه بوش وعاد المتظاهرون إلى منازلهم. ظهر سياسيون من الحزب الذي خسر السيطرة على الرئاسة على شبكات التلفزة للإعلان بأنه حان الوقت لتوحيد القوى والانطلاق لتسيير شؤون البلاد. لم يُسّر قرار المحكمة كل الناس بأي حال من الأحوال، ولكن كان هناك شبه إجماع بأنه من اللازم قبول هذا القرار. وبينما دارت التساؤلات حول الميول السياسية لقضاة متعددين، لم يشك أحد بأن القرار الذي اتخذّوه تمّ اتخاذه باستقلالية تامة عن كافة الممثلين السياسيين.
إن استقلال النظام القضائي الفدرالي واتفاق المجتمع على وجوب احترام الأحكام التي يصدرها، هي سمة مميّزة للنظام السياسي الأميركي. والواقع أنه لا تملك أي محكمة في العالم سلطة تقترب من السلطة الاستثنائية التي تملكها المحكمة العليا لحل النزاعات في المجتمع، وتفسير مواد الدستور القومي وصنع السياسة العامة. قبل عدة سنوات من حصول الجدل الانتخابي، لاحظ ويليام رنكويست، رئيس المحكمة العليا وقت حصول هذا الجدل "أن القضاء الأميركي يُشكّل واحدة من جواهر التاج لنظام الحكم في بلادنا."
ينقسم السؤال الذي يُطرح مراراً حول النظام القضائي الأميركي إلى جزئين: الأول يسأل لماذا تَبنّت الولايات المتحدة آلية تسمح لبضعة قضاة مُعيّنين وليس مُنتخبين (يستمرون في منصبهم طوال عمرهم) بأن يشيروا على سلطات الحكم ما يمكنهم عمله بصورة مشروعة؟ والثاني يسأل كيف ينسجم هذا النوع من السلطة المؤسساتية مع حكم الأغلبية الذي يتضمنه نظام سياسي ديمقراطي؟ والجواب على الجزء الأول من السؤال يكمن في وجهة النظر الأميركية حول طبيعة الحكم.
* إنشاء النظام القضائي الفدرالي
آمن الأسلاف المؤسسون الذين كتبوا إعلان استقلال الولايات المتحدة العام 1776 ودستور العام 1789 بأن حقوق الشعب سبقت وجود الحكومات. أكدوا في الإعلان أن الناس يولدون متمتعين بحقوق وأن هدف الحكومة هو حماية وتعزيز هذه الحقوق. فمثلاً، يتوجب على الحكومة تأمين الحماية المادية لصالح الناس وممتلكاتهم، ولهذا هناك قوانين جنائية وموظفون حكوميون لفرض تطبيقها.
ولكن صانعي الدستور تساءلوا: إذا كانت الحكومة الجديدة تحمي الناس من بعضهم البعض، فمن يحمي الناس من الحكومة؟ من المحتمل أن تخطئ الحكومة وأن تكون استبدادية وأن تسيء استعمال ثقة الناس وأن تحرمهم من حقوقهم. يتمثل أحد العناصر الحاسمة في الفكر السياسي الأميركي بالاقتناع بأن كافة المؤسسات فاسدة احتمالياً، وبأن من المُحتمل إفساد كافة السياسيين ليس بواسطة الإغراء الملموس للنقد بل بالإغراء الأشد خطراً المتولد من الاعتقاد بالاستقامة الذاتية. من السهل جداً انجرار من هم في السلطة إلى الاعتقاد بأن ما يريدون عمله هو بالتحديد الشيء الصحيح الواجب عمله. ويصُحّ هذا القول بدرجة أكبر في دولة ديمقراطية حيث يستطيع السياسيون طمأنة أنفسهم بأن انتخاب الشعب لهم يبرهن ثقة الشعب بهم في اختيار الأجوبة الصحيحة. تساءل واضعو مواد الدستور هل يُمكن تقوية الحكومة لدرجة تكفي لحماية المواطنين دون تحول هذه القوة إلى معقل لسلطة لا حدود لها؟
وأتى جوابهم بتقييد هذه السلطة من خلال تقسيم عناصرها. قرروا إنشاء ثلاثة فروع منفصلة للحكم: الرئاسة، والتشريع (الكونغرس)، والقضاء. لا يحق للكونغرس تشريع أي قانون دون موافقة الرئيس؛ ولا يحق للرئيس تشريع أي قانون دون موافقة الكونغرس، ويخضع كلاهما لمحاسبة السلطة القضائية التي تُقيّم أعمالهما على أساس السلطات الممنوحة بموجب الدستور لكل منهما. تكون السلطة القضائية المُفسّر النهائي لمواد الدستور الذي كان البيان الأساسي لما يريده شعب سيّد من حكومته وللتقييدات على سلطة الحكومة. إذا حاول "الفرعان السياسيان"، الرئيس والكونغرس، تجاوز هذه التوجيهات، يمكن للمواطنين تحدّي أعمالهما على أسس دستورية ضمن نظام المحاكم. تتدخل عندئذ السلطة القضائية وتلغي القوانين المتعارضة مع نصوص الدستور.
وكما قال أحد واضعي الدستور، فإن السلطة القضائية نفسها لن يكون لها لا سلطة المال ولا سلطة السيف. لا تستطيع السلطة القضائية تنظيم أي جيش أو قوة شرطة لتطبيق قراراتها، كما لن تستطيع منع الموازنات المالية عن الفرعين الآخرين. إن كل ما تستطيع القيام به هو أن تبقى مستقلة سياسياً وحامية لحقوق الشعب إلى درجة تجعل السياسيين والمواطنين على حد سواء يتقيّدون بقراراتها.
إذا كان للسلطة القضائية أن تتكلم دون خوف أو تحيّز، وإذا كان لها أن تكون مستقلة فعلاً، فيجب أن توجد خارج نطاق سيطرة الفرعين الآخرين للحكم. ولذلك نص الدستور الأميركي على إنشاء محكمة عُليا. وأناط بالكونغرس مهمة إنشاء محاكم فدرالية من مستوى أدنى على أن يتم تعيين قضاة كافة هذه الهيئات القضائية من رئيس البلاد. تُصادق على هذه التعيينات أغلبية أعضاء مجلس الشيوخ. أنشأ الكونغرس الأول هذه السلطة القضائية الفدرالية المتكونة من محاكم الدعاوى الأساسية ومن محاكم الاستئناف المتوسطة، بينما تكون المحكمة العليا هي المحكمة الاستئنافية النهائية. يستمر القضاة الفدراليون من كافة المستويات، في مناصبهم طوال حياتهم (ولا يجوز قانوناً تخفيض راتب القاضي). لذلك لا يخشون من أن يؤدي اتخاذهم لقرار غير شعبي إلى طردهم من الوظيفة. يحق للقاضي الفدرالي أن يختار ترك العمل في السلطة القضائية بغية العمل في مجال آخر، أو، مع أن ذلك نادر الحصول، يقرر قاضٍ الاستقالة من منصبه لترشيح نفسه لمنصب حكومي. يستطيع قاضٍ من أي محكمة فدرالية ذات مستوى أدنى أن يأمل بتعيينه قاضياً
في محكمة فدرالية ذات مستوى أعلى، ولكن، بصورة مماثلة، يستطيع قاضٍ أن يُصدر قرارات مُدركاً أن وظيفته مضمونة لمدى الحياة مهما بلغ غضب السياسيين أو الشعب بشكل عام من هذه القرارات.
يبدو أن الجملة الأخيرة توحي بالتناقض. فمن جهة يتم تعيين القضاة الفدراليين للتأكيد على أن إرادة الشعب هي العليا، حسب ما هو منصوص عليه في الدستور، ومن جهة أخرى فإن التعيين لمدى الحياة يوحي ضمنياً أن بإمكان القضاة إصدار قرارات يعتبرها الشعب خاطئة أو تُناقض الإرادة الشعبية، وإذا كان السياسيون، إما في الرئاسة أو الفرع التشريعي، هم الذين يختارون القضاة فهل يمكن أن لا تعكس قرارات القضاة الميول الفئوية، وعوضاً عن ما ترغبه الأغلبية، أو ما تمليه مواد الدستور؟ يثير ذلك مسألة كيف تتم بالفعل عملية الانتقاء.
رد: دور القضاء المستقل
عملية الانتقاء واستقلالية القضاء
إن الرئيس هو الذي يُعيّن القضاة لملء كافة الشواغر في السلطة القضائية الفدرالية، من ضمنهم قضاة المحكمة العليا. ويميل الرؤساء، بطبيعة الحال، إلى اختيار قضاة يُحتمل أن يتفقوا معهم في الآراء. تتمتع مرتبتا المستوى الأدنى من المحاكم الفدرالية بسلطة قضائية على مناطق جغرافية مُعيّنة، وبما أن أعضاء مجلس الشيوخ يتأثرون بما يفضله زملاؤهم عند تقرير تثبيت تعيين أحد القضاة، فإن الرؤساء يستشيرون عادة أعضاء مجلس الشيوخ الذين يمثلون منطقة ما قبل تعيين قضاة لها. لكن ذلك لا يحدث عند تعيين قضاة المحكمة العليا لأن سلطتهم القضائية تشمل الوطن بكامله. لقد أصبح متعارفاً عليه أيضاً بين الرؤساء الذين تولّوا الحكم في أواخر القرن العشرين أن يأخذوا في عين الاعتبار التوزيع الجغرافي، والدين، والعرق، والجنس عند تعيين قضاة في المحكمة العليا، استناداً إلى النظرية القائلة بأن ذلك يعزز مصداقية المحكمة العصرية. لكن مبدأ إشغال المنصب لمدى الحياة الذي يتمتع به القضاة يحدّ من نفوذ الرؤساء لدى أعضاء المحكمة العليا. وفي حين انه من الممكن تقييم الآراء المحتملة للقضاة استناداً إلى القرارات التي اتخذوها عندما كانوا سياسيين أو قضاة في محاكم أدنى مرتبة، فلا تؤكد تلك الآراء بصورة حاسمة ما سوف يقررون بعد تعيينهم في المحكمة العليا. فمثلاً، عندما عيّن الرئيس دوايت ايزنهاور في العام 1953 إيرل وارن رئيساً للمحكمة العليا، كان يعرف أن وارن الذي عمل كمدعي عام سابق لولاية كاليفورنيا، أشرف على عملية نقل المواطنين الأميركيين من أصل ياباني من سكان تلك الولاية إلى معسكرات احتجاز خلال الحرب العالمية الثانية، وأنه كان مدعي عام سابق وحاكم ولاية أظهر صرامة شديدة ضد الجريمة والمجرمين. ولكن، كرئيس للمحكمة العليا أصبح وارن عنصراً مساعداً في صياغة قرار إجماعي أصدرته المحكمة العليا اعتبر التمييز العنصري في المدارس الحكومية عملاً مخالفاً للدستور. وكان، إلى حد كبير، نفوذ وارن هو الذي دفع هذه المحكمة إلى تفسير الدستور في الستينات على أنه يفرض حماية أعظم من المتبّع كقاعدة بالنسبة للمتهمين في تنقلهم عبر نظام المحاكم الجنائية. وعندما ألغت محكمة وارن التقليد المُتبع في إعطاء وزن في الانتخابات التشريعية لأصوات المواطنين في المناطق الريفية أكبر مما لأصوات نظرائهم في المناطق الحضرية، أفادت التقارير أن ايزنهاور غضب من هذا التحرّك إلى درجة دفعته إلى الإعلان بأنه لو كان يتوقع حدوث ذلك من وارن لما كان عيّنه مطلقاً قاضياً في المحكمة العليا.
ومع أن الأسباب التي دفعت وارن لاتخاذ هذه القرارات تعود جزئياً إلى طبيعة شخصيته، فإن التغيّر الظاهري في معتقداته حول الحكم يعكس أيضاً ظاهرة واضحة في الحياة المهنية القضائية لكثير من القضاة الذين عملوا في المحكمة العليا. خدم قضاة عديدون في مراكز مُنتخبة حيث جعلتهم ضرورة إرضاء الناخبين والرغبة في إعادة ترشيح أنفسهم للانتخابات يركّزون اهتمامهم تماماً على الاعتبارات السياسية المحلية، وهي الاعتبارات نفسها التي حاول واضعو مواد الدستور تجنبها من خلال جعل المناصب القضائية تدوم مدى الحياة. كما أن هناك قضاة في المحكمة العليا شغلوا في السابق منصب قاضٍ في محاكم الولايات حيث لا يفرض عليهم الاستناد إلى الدستور الفدرالي عند إصدار الأحكام، أو شغلوا منصب قاضٍ في محاكم فدرالية أدنى مرتبة حيث كان باستطاعتهم الاطمئنان إلى أنه في حال اخطأوا في قراءتهم لمواد الدستور عند إصدار أحكامهم، فإن المحكمة العليا سوف تُصحّح هذه الأخطاء.
بعد أن يتسلم قضاة المحكمة العليا مناصبهم، يتحررون من ضرورة مسايرة الأمزجة الشعبية. يدركون بسرعة بأنهم الحكام النهائيون للقانون الأساسي للدولة، ليس هناك محكمة أعلى لتصحيح أخطائهم، وأنهم يعكسون في أحيان كثيرة معان جديدة لما على العبارات المدوية الواردة في الدستور أن تفعله وما يجب أن تعنيه.
يلعب طول العمر أيضاً دوراً في استقلالية القضاء. من المحتمل أن تعود المسائل التي قد تدفع رئيساً إلى تعيين أحد القضاة وليس غيره في المحكمة العليا متعلقة بالبرنامج السياسي بمرور العقود التي يمضيها القاضي في منصبه، كما من المحتمل أن تبرز أمور أخرى لم يتم التفكير بها وقت تعيين القاضي كالنزاعات السياسية الأساسية بمرور السنين. ما من طريقة يستطيع الرئيس الاستناد إليها لتقييم أي من هاتين الظاهرتين مسبقاً. عندما عين الرئيس ريتشارد نيكسون قاضي محكمة فدرالية ذات مرتبة أدنى، هو وارن برغر، رئيساً للمحكمة العليا العام 1969، لم تكن قضية المساواة بين الجنسين موجودة في ملفات المحكمة العليا. لم تتوفر لنيكسون وسيلة للتكهن بأن هذه المسألة سوف تصبح قضية رئيسية لمحكمة برغر خلال السبعينات، ولم يكن في وسع نيكسون اختيار قاضٍ له رأي معيّن بخصوص هذه المسألة.
القضاة هم مواطنون مثلهم مثل أي مواطن آخر في أي مجتمع حر. وهم مثلنا يعكسون بالضرورة المعتقدات التي كانت سائدة عند تنشئتهم. وهم، في نفس الوقت، أعضاء في مجتمع تتطور فيه القيم باستمرار كما تتطور في كافة المجتمعات، ويتعرّض لتغيّرات تكنولوجية تثير فيه مشاكل قانونية جديدة. يتحدث القضاة مع أناس من خارج المحكمة ويطالعون الصحف ويشاهدون البرامج التلفزيونية. يعرفون ما هي الأمور التي أصبحت مهمة للمجتمع بحيث أنها قفزت إلى أعلى جدول أعمال الكونغرس، والرئيس، والمجالس التشريعية للولايات. عندما يواجه القضاة جُملاً دستورية كُتبت في العام 1787، مثل "التجارة بين الولايات المتعددة" أو "أصول الإجراءات القانونية"، ثم يحاولون تطبيقها في قضايا معينة، لا يمكنهم إلاّ أن يقرأوا وهم يدركون ما تعنيه كلمة "تجارة" للمجتمع في وقت معيّن، أو ما هو نوع "الإجراءات القانونية" التي يعتبرها المجتمع الآن كافية.
وفي حين أنهم محميون من النزوات العابرة للمجتمع ومن الطموح الإنساني، إلا أن القضاة نادراً ما يعيشون أو يعدّون مطالعات أحكامهم في الفراغ. لا تشير استقلالية القضاء، ضمنياً، الى الانفصال الكامل عن الإرادة الشعبية ورغبات الأغلبية، حتى ولو كانت هذه الاستقلالية تعني وجود درجة معيّنة من البعد عنها.
هناك طريقتان إضافيتان للتقييد على السلطة القضائية يتضمنها النظام الأميركي. ففي حين يوصف القضاة الفدراليون، بصورة عامة، على أنهم يشغلون وظائفهم لمدى الحياة، فإن تعيينهم في الواقع يعتمد على "السلوك الجيد" بحيث من الممكن لأي عمل إجرامي أو غير مقبول لسبب ما، أن يحفز إجراء محاكمة من قبل الكونغرس قد تؤدي إلى طرد قاضٍ من منصبه. بإمكان الكونغرس من خلال التشريع إلغاء الإصلاحية القانونية للسلطة القضائية الاستثنائية للمحكمة العليا مما يعني أنه يستطيع التقرير، مثلاً، عدم جواز نظر المحكمة العليا في الدعاوى المستأنفة الواردة من محاكم أدنى مرتبة، بالنسبة لقضايا تتعلق بدعاوى التمييز الديني أو العرقي.
ومع أن الكونغرس طرد عدداً من قضاة المحاكم الأدنى مرتبة من المحكمة العليا، فإنه لم يطرد أي رئيس للمحكمة العليا رغم أن العديد من المشرعين شجبوا بعنف العديد من قرارات تلك المحكمة. وقلما ما استخدم الكونغرس سلطته بالنسبة للسلطة القضائية الاستئنافية. ويكمن سبب تمنّع الكونغرس عن ذلك مبدئياً في أسلوب تنفيذ المحكمة العليا لواجباتها.
* المحكمة العليا والتفسير الدستوري
كُتب الدستور في لحظة من تاريخ الولايات المتحدة كان فيها الافتراض سائداً بأنه سوف يكون للحكومة الفدرالية سلطة محدودة جداً. بعد انطلاق الثورة الأميركية العام 1776 كانت المستعمرات البريطانية السابقة الثلاث عشرة التي وحدت صفوفها لتشكيل الاتحاد، هي نفسها قد أعلنت استقلالها كولايات تملك كافة سلطات الحكم. لكنها اقتنعت بعد انتهاء الحرب، بضرورة مقاربة الشؤون الخارجية كوحدة واحدة وبضرورة توحيد المعايير التجارية ضمن الدولة، لكنها اعتبرت مع ذلك بأن الحكومة الوطنية التي أنشأتها للقيام بمثل هذه الوظائف، لن يكون لها الأهمية الرئيسية في حياة المواطنين. تستمر الولايات في الاحتفاظ بسيطرتها على شؤون الحياة اليومية في مجالات كالسلامة العامة، والتربية، والخدمات الاجتماعية، والصحة، والتجارة المحلية.
لذلك يُعبر الدستور عن السلطات التي يمنحها الشعب للحكومة بعبارات ذات معانٍ واسعة للغاية. ينص أحد مواده، مثلاً، على إعطاء الكونغرس سلطة تنظيم التجارة مع الدول الأجنبية و"بين الولايات المتعددة". في القرن الثامن عشر، عندما كان الجزء الأكبر من التجارة محلياً، عنت عبارة "بين الولايات المتعددة" التجارة التي كانت تجتاز فعلاً حدود الولايات. لكن مع قيام الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر والثورة التكنولوجية في القرن العشرين ونوع العولمة القائمة في أوائل القرن الواحد والعشرين، فقد أصبح معنى ذلك أقل وضوحاً بكثير. إن معظم السلع المعروضة للبيع في المتاجر في أي ولاية، تُنتج الآن في ولايات أخرى (أو دول أخرى)، ويعتمد الشعب الأميركي على التجارة بين الولايات كما على التجارة الأجنبية، للحصول على سلع أساسية. أصبحت الشركات قومية (أو دولية) أكثر منها محلية، تتمتع بقدرة أخذ إنتاجها إلى أي مكان آخر إذا حاولت الولايات الفردية فرض تطبيق أنظمة بالنسبة لتأمين السلامة العامة ورفاه الناس. فمن يحمي المستهلكين من المنتجات الرديئة أو غير الصحية؟
كان جواب المحكمة العليا، وذلك ابتداءً من ثلاثينات القرن المنصرم، حيث قامت بتفسير عبارة التجارة على أنها تعني أنه يمكن للحكومة الفدرالية تنظيم تجارة السلع التي تتضمن أي مكونات في أي من الولايات الأخرى مهما بلغ صغرها أو بعدها، وكذلك الأمر بالنسبة لما يتعلق برفاه الشعب أكثر منه بالتجارة بحد ذاتها. وكانت النتيجة، مثلاً، إن أصبح ممكناً للحكومة الفدرالية مراقبة الظروف الصحية في مصنع في حال اجتازت، أو سوف تجتاز، حدود الولايات أي مواد أولية يستخدمها المصنع أو أي سلع ينتجها. تخضع أجور وساعات عمل العاملين في المصانع والمتاجر للتنظيم الفدرالي لأنه ظاهرياً سوف يباع العديد من السلع التي تنتجها هذه المصانع في ولايات أخرى. لا يمكن تسويق الأغذية والأدوية في الولايات المتحدة ما لم توافق عليها الحكومة الفدرالية لأنها ظاهرياً أيضاً سوف تجتاز حدود الولايات. بالفعل، ومن خلال تفسير العبارة الغامضة للتجارة بطريقة واسعة إلى هذا الحد فقد قامت المحكمة العليا بصنع السياسة القومية وساعدت في إنشاء شكل محدود من دولة الرفاه الشعبي حيث تتحمل الحكومة مسؤولية رئيسية في ضمان صحة، وسلامة، ورفاه المواطنين.
لقد تم، بطريقة مماثلة، توسيع معاني أحكام أخرى في الدستور من قبل المحكمة العليا. على مر القرون كانت المحكمة تفسّر الأوامر الدستورية لتتناسب مع حاجات المجتمع، كما ترى المحكمة هذه الحاجات، ضمن إطار تفسيري ظلّ مراعياً للتقاليد الدستورية للولايات المتحدة. كانت نتيجة ذلك مزدوجة.
* أولاً، حيث أنه تمّ تفسير الدستور من قبل المحكمة العليا بأسلوب تطوري لكنه يحترم التقاليد، لم يجد المواطنون ضرورة كبيرة لتعديله. يشمل الدستور اليوم 27 تعديلاً، 10 تعديلات منها وضعها أول كونغرس. عند أخذ الاختلاف الكبير بين الولايات المتحدة في نهاية القرن الثامن عشر والولايات المتحدة في يومنا الحاضر بعين الاعتبار، فإن عدد تلك التعديلات يبقى قليلاً جداً.
* ثانياً، حيث أن مجموع الناخبين راضون عن نتائج تفسيرات المحكمة العليا، فقد كسبت المحكمة تدريجياً هالة من الاحترام. يفترض الناس، كما تشير إليه الطريقة التي قبلت بها البلاد إعلان المحكمة عن المنتصر في الانتخابات الرئاسية للعام 2000، بأن المحكمة قادرة على تفسير أوامر الدستور كما لا تستطيعه أي هيئة أخرى. في كل مرة يُشرّع الرئيس والكونغرس قانوناً فإن الافتراض المنطقي هو أن هاتين الهيئتين الحسنتي الاطلاع على أحكام الدستور تعتقدان بأن القانون الذي تمت المصادقة عليه يتماشى مع الدستور. لكن في حال لم توافق المحكمة العليا وتلغي القانون لكونه ينتهك حدود سلطة الحكومة التي حددها الدستور، يصبح ذلك القانون لاغياً وباطلاً. وبما أن قضاة المحكمة يكتبون الآراء القانونية شارحين الأساليب التي دفعتهم إلى اتخاذ هذه الآراء يحق للمجالس التشريعية أحياناً مراجعة القوانين الملغية في محاولة منها لجعلها تلتزم بقرار المحكمة. ولكن حق المراجعة الرئيسي الذي يتوفر للناخبين في هذه الحالات هو تعديل الدستور، وكما رأينا، فإن ذلك لا يحدث كثيراً. والسبب هو أن الناس يثقون بالمحكمة العليا، وهي ثقة تنبثق بكثرتها، من طريقة حماية المحكمة للحقوق الفردية.
إن الرئيس هو الذي يُعيّن القضاة لملء كافة الشواغر في السلطة القضائية الفدرالية، من ضمنهم قضاة المحكمة العليا. ويميل الرؤساء، بطبيعة الحال، إلى اختيار قضاة يُحتمل أن يتفقوا معهم في الآراء. تتمتع مرتبتا المستوى الأدنى من المحاكم الفدرالية بسلطة قضائية على مناطق جغرافية مُعيّنة، وبما أن أعضاء مجلس الشيوخ يتأثرون بما يفضله زملاؤهم عند تقرير تثبيت تعيين أحد القضاة، فإن الرؤساء يستشيرون عادة أعضاء مجلس الشيوخ الذين يمثلون منطقة ما قبل تعيين قضاة لها. لكن ذلك لا يحدث عند تعيين قضاة المحكمة العليا لأن سلطتهم القضائية تشمل الوطن بكامله. لقد أصبح متعارفاً عليه أيضاً بين الرؤساء الذين تولّوا الحكم في أواخر القرن العشرين أن يأخذوا في عين الاعتبار التوزيع الجغرافي، والدين، والعرق، والجنس عند تعيين قضاة في المحكمة العليا، استناداً إلى النظرية القائلة بأن ذلك يعزز مصداقية المحكمة العصرية. لكن مبدأ إشغال المنصب لمدى الحياة الذي يتمتع به القضاة يحدّ من نفوذ الرؤساء لدى أعضاء المحكمة العليا. وفي حين انه من الممكن تقييم الآراء المحتملة للقضاة استناداً إلى القرارات التي اتخذوها عندما كانوا سياسيين أو قضاة في محاكم أدنى مرتبة، فلا تؤكد تلك الآراء بصورة حاسمة ما سوف يقررون بعد تعيينهم في المحكمة العليا. فمثلاً، عندما عيّن الرئيس دوايت ايزنهاور في العام 1953 إيرل وارن رئيساً للمحكمة العليا، كان يعرف أن وارن الذي عمل كمدعي عام سابق لولاية كاليفورنيا، أشرف على عملية نقل المواطنين الأميركيين من أصل ياباني من سكان تلك الولاية إلى معسكرات احتجاز خلال الحرب العالمية الثانية، وأنه كان مدعي عام سابق وحاكم ولاية أظهر صرامة شديدة ضد الجريمة والمجرمين. ولكن، كرئيس للمحكمة العليا أصبح وارن عنصراً مساعداً في صياغة قرار إجماعي أصدرته المحكمة العليا اعتبر التمييز العنصري في المدارس الحكومية عملاً مخالفاً للدستور. وكان، إلى حد كبير، نفوذ وارن هو الذي دفع هذه المحكمة إلى تفسير الدستور في الستينات على أنه يفرض حماية أعظم من المتبّع كقاعدة بالنسبة للمتهمين في تنقلهم عبر نظام المحاكم الجنائية. وعندما ألغت محكمة وارن التقليد المُتبع في إعطاء وزن في الانتخابات التشريعية لأصوات المواطنين في المناطق الريفية أكبر مما لأصوات نظرائهم في المناطق الحضرية، أفادت التقارير أن ايزنهاور غضب من هذا التحرّك إلى درجة دفعته إلى الإعلان بأنه لو كان يتوقع حدوث ذلك من وارن لما كان عيّنه مطلقاً قاضياً في المحكمة العليا.
ومع أن الأسباب التي دفعت وارن لاتخاذ هذه القرارات تعود جزئياً إلى طبيعة شخصيته، فإن التغيّر الظاهري في معتقداته حول الحكم يعكس أيضاً ظاهرة واضحة في الحياة المهنية القضائية لكثير من القضاة الذين عملوا في المحكمة العليا. خدم قضاة عديدون في مراكز مُنتخبة حيث جعلتهم ضرورة إرضاء الناخبين والرغبة في إعادة ترشيح أنفسهم للانتخابات يركّزون اهتمامهم تماماً على الاعتبارات السياسية المحلية، وهي الاعتبارات نفسها التي حاول واضعو مواد الدستور تجنبها من خلال جعل المناصب القضائية تدوم مدى الحياة. كما أن هناك قضاة في المحكمة العليا شغلوا في السابق منصب قاضٍ في محاكم الولايات حيث لا يفرض عليهم الاستناد إلى الدستور الفدرالي عند إصدار الأحكام، أو شغلوا منصب قاضٍ في محاكم فدرالية أدنى مرتبة حيث كان باستطاعتهم الاطمئنان إلى أنه في حال اخطأوا في قراءتهم لمواد الدستور عند إصدار أحكامهم، فإن المحكمة العليا سوف تُصحّح هذه الأخطاء.
بعد أن يتسلم قضاة المحكمة العليا مناصبهم، يتحررون من ضرورة مسايرة الأمزجة الشعبية. يدركون بسرعة بأنهم الحكام النهائيون للقانون الأساسي للدولة، ليس هناك محكمة أعلى لتصحيح أخطائهم، وأنهم يعكسون في أحيان كثيرة معان جديدة لما على العبارات المدوية الواردة في الدستور أن تفعله وما يجب أن تعنيه.
يلعب طول العمر أيضاً دوراً في استقلالية القضاء. من المحتمل أن تعود المسائل التي قد تدفع رئيساً إلى تعيين أحد القضاة وليس غيره في المحكمة العليا متعلقة بالبرنامج السياسي بمرور العقود التي يمضيها القاضي في منصبه، كما من المحتمل أن تبرز أمور أخرى لم يتم التفكير بها وقت تعيين القاضي كالنزاعات السياسية الأساسية بمرور السنين. ما من طريقة يستطيع الرئيس الاستناد إليها لتقييم أي من هاتين الظاهرتين مسبقاً. عندما عين الرئيس ريتشارد نيكسون قاضي محكمة فدرالية ذات مرتبة أدنى، هو وارن برغر، رئيساً للمحكمة العليا العام 1969، لم تكن قضية المساواة بين الجنسين موجودة في ملفات المحكمة العليا. لم تتوفر لنيكسون وسيلة للتكهن بأن هذه المسألة سوف تصبح قضية رئيسية لمحكمة برغر خلال السبعينات، ولم يكن في وسع نيكسون اختيار قاضٍ له رأي معيّن بخصوص هذه المسألة.
القضاة هم مواطنون مثلهم مثل أي مواطن آخر في أي مجتمع حر. وهم مثلنا يعكسون بالضرورة المعتقدات التي كانت سائدة عند تنشئتهم. وهم، في نفس الوقت، أعضاء في مجتمع تتطور فيه القيم باستمرار كما تتطور في كافة المجتمعات، ويتعرّض لتغيّرات تكنولوجية تثير فيه مشاكل قانونية جديدة. يتحدث القضاة مع أناس من خارج المحكمة ويطالعون الصحف ويشاهدون البرامج التلفزيونية. يعرفون ما هي الأمور التي أصبحت مهمة للمجتمع بحيث أنها قفزت إلى أعلى جدول أعمال الكونغرس، والرئيس، والمجالس التشريعية للولايات. عندما يواجه القضاة جُملاً دستورية كُتبت في العام 1787، مثل "التجارة بين الولايات المتعددة" أو "أصول الإجراءات القانونية"، ثم يحاولون تطبيقها في قضايا معينة، لا يمكنهم إلاّ أن يقرأوا وهم يدركون ما تعنيه كلمة "تجارة" للمجتمع في وقت معيّن، أو ما هو نوع "الإجراءات القانونية" التي يعتبرها المجتمع الآن كافية.
وفي حين أنهم محميون من النزوات العابرة للمجتمع ومن الطموح الإنساني، إلا أن القضاة نادراً ما يعيشون أو يعدّون مطالعات أحكامهم في الفراغ. لا تشير استقلالية القضاء، ضمنياً، الى الانفصال الكامل عن الإرادة الشعبية ورغبات الأغلبية، حتى ولو كانت هذه الاستقلالية تعني وجود درجة معيّنة من البعد عنها.
هناك طريقتان إضافيتان للتقييد على السلطة القضائية يتضمنها النظام الأميركي. ففي حين يوصف القضاة الفدراليون، بصورة عامة، على أنهم يشغلون وظائفهم لمدى الحياة، فإن تعيينهم في الواقع يعتمد على "السلوك الجيد" بحيث من الممكن لأي عمل إجرامي أو غير مقبول لسبب ما، أن يحفز إجراء محاكمة من قبل الكونغرس قد تؤدي إلى طرد قاضٍ من منصبه. بإمكان الكونغرس من خلال التشريع إلغاء الإصلاحية القانونية للسلطة القضائية الاستثنائية للمحكمة العليا مما يعني أنه يستطيع التقرير، مثلاً، عدم جواز نظر المحكمة العليا في الدعاوى المستأنفة الواردة من محاكم أدنى مرتبة، بالنسبة لقضايا تتعلق بدعاوى التمييز الديني أو العرقي.
ومع أن الكونغرس طرد عدداً من قضاة المحاكم الأدنى مرتبة من المحكمة العليا، فإنه لم يطرد أي رئيس للمحكمة العليا رغم أن العديد من المشرعين شجبوا بعنف العديد من قرارات تلك المحكمة. وقلما ما استخدم الكونغرس سلطته بالنسبة للسلطة القضائية الاستئنافية. ويكمن سبب تمنّع الكونغرس عن ذلك مبدئياً في أسلوب تنفيذ المحكمة العليا لواجباتها.
* المحكمة العليا والتفسير الدستوري
كُتب الدستور في لحظة من تاريخ الولايات المتحدة كان فيها الافتراض سائداً بأنه سوف يكون للحكومة الفدرالية سلطة محدودة جداً. بعد انطلاق الثورة الأميركية العام 1776 كانت المستعمرات البريطانية السابقة الثلاث عشرة التي وحدت صفوفها لتشكيل الاتحاد، هي نفسها قد أعلنت استقلالها كولايات تملك كافة سلطات الحكم. لكنها اقتنعت بعد انتهاء الحرب، بضرورة مقاربة الشؤون الخارجية كوحدة واحدة وبضرورة توحيد المعايير التجارية ضمن الدولة، لكنها اعتبرت مع ذلك بأن الحكومة الوطنية التي أنشأتها للقيام بمثل هذه الوظائف، لن يكون لها الأهمية الرئيسية في حياة المواطنين. تستمر الولايات في الاحتفاظ بسيطرتها على شؤون الحياة اليومية في مجالات كالسلامة العامة، والتربية، والخدمات الاجتماعية، والصحة، والتجارة المحلية.
لذلك يُعبر الدستور عن السلطات التي يمنحها الشعب للحكومة بعبارات ذات معانٍ واسعة للغاية. ينص أحد مواده، مثلاً، على إعطاء الكونغرس سلطة تنظيم التجارة مع الدول الأجنبية و"بين الولايات المتعددة". في القرن الثامن عشر، عندما كان الجزء الأكبر من التجارة محلياً، عنت عبارة "بين الولايات المتعددة" التجارة التي كانت تجتاز فعلاً حدود الولايات. لكن مع قيام الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر والثورة التكنولوجية في القرن العشرين ونوع العولمة القائمة في أوائل القرن الواحد والعشرين، فقد أصبح معنى ذلك أقل وضوحاً بكثير. إن معظم السلع المعروضة للبيع في المتاجر في أي ولاية، تُنتج الآن في ولايات أخرى (أو دول أخرى)، ويعتمد الشعب الأميركي على التجارة بين الولايات كما على التجارة الأجنبية، للحصول على سلع أساسية. أصبحت الشركات قومية (أو دولية) أكثر منها محلية، تتمتع بقدرة أخذ إنتاجها إلى أي مكان آخر إذا حاولت الولايات الفردية فرض تطبيق أنظمة بالنسبة لتأمين السلامة العامة ورفاه الناس. فمن يحمي المستهلكين من المنتجات الرديئة أو غير الصحية؟
كان جواب المحكمة العليا، وذلك ابتداءً من ثلاثينات القرن المنصرم، حيث قامت بتفسير عبارة التجارة على أنها تعني أنه يمكن للحكومة الفدرالية تنظيم تجارة السلع التي تتضمن أي مكونات في أي من الولايات الأخرى مهما بلغ صغرها أو بعدها، وكذلك الأمر بالنسبة لما يتعلق برفاه الشعب أكثر منه بالتجارة بحد ذاتها. وكانت النتيجة، مثلاً، إن أصبح ممكناً للحكومة الفدرالية مراقبة الظروف الصحية في مصنع في حال اجتازت، أو سوف تجتاز، حدود الولايات أي مواد أولية يستخدمها المصنع أو أي سلع ينتجها. تخضع أجور وساعات عمل العاملين في المصانع والمتاجر للتنظيم الفدرالي لأنه ظاهرياً سوف يباع العديد من السلع التي تنتجها هذه المصانع في ولايات أخرى. لا يمكن تسويق الأغذية والأدوية في الولايات المتحدة ما لم توافق عليها الحكومة الفدرالية لأنها ظاهرياً أيضاً سوف تجتاز حدود الولايات. بالفعل، ومن خلال تفسير العبارة الغامضة للتجارة بطريقة واسعة إلى هذا الحد فقد قامت المحكمة العليا بصنع السياسة القومية وساعدت في إنشاء شكل محدود من دولة الرفاه الشعبي حيث تتحمل الحكومة مسؤولية رئيسية في ضمان صحة، وسلامة، ورفاه المواطنين.
لقد تم، بطريقة مماثلة، توسيع معاني أحكام أخرى في الدستور من قبل المحكمة العليا. على مر القرون كانت المحكمة تفسّر الأوامر الدستورية لتتناسب مع حاجات المجتمع، كما ترى المحكمة هذه الحاجات، ضمن إطار تفسيري ظلّ مراعياً للتقاليد الدستورية للولايات المتحدة. كانت نتيجة ذلك مزدوجة.
* أولاً، حيث أنه تمّ تفسير الدستور من قبل المحكمة العليا بأسلوب تطوري لكنه يحترم التقاليد، لم يجد المواطنون ضرورة كبيرة لتعديله. يشمل الدستور اليوم 27 تعديلاً، 10 تعديلات منها وضعها أول كونغرس. عند أخذ الاختلاف الكبير بين الولايات المتحدة في نهاية القرن الثامن عشر والولايات المتحدة في يومنا الحاضر بعين الاعتبار، فإن عدد تلك التعديلات يبقى قليلاً جداً.
* ثانياً، حيث أن مجموع الناخبين راضون عن نتائج تفسيرات المحكمة العليا، فقد كسبت المحكمة تدريجياً هالة من الاحترام. يفترض الناس، كما تشير إليه الطريقة التي قبلت بها البلاد إعلان المحكمة عن المنتصر في الانتخابات الرئاسية للعام 2000، بأن المحكمة قادرة على تفسير أوامر الدستور كما لا تستطيعه أي هيئة أخرى. في كل مرة يُشرّع الرئيس والكونغرس قانوناً فإن الافتراض المنطقي هو أن هاتين الهيئتين الحسنتي الاطلاع على أحكام الدستور تعتقدان بأن القانون الذي تمت المصادقة عليه يتماشى مع الدستور. لكن في حال لم توافق المحكمة العليا وتلغي القانون لكونه ينتهك حدود سلطة الحكومة التي حددها الدستور، يصبح ذلك القانون لاغياً وباطلاً. وبما أن قضاة المحكمة يكتبون الآراء القانونية شارحين الأساليب التي دفعتهم إلى اتخاذ هذه الآراء يحق للمجالس التشريعية أحياناً مراجعة القوانين الملغية في محاولة منها لجعلها تلتزم بقرار المحكمة. ولكن حق المراجعة الرئيسي الذي يتوفر للناخبين في هذه الحالات هو تعديل الدستور، وكما رأينا، فإن ذلك لا يحدث كثيراً. والسبب هو أن الناس يثقون بالمحكمة العليا، وهي ثقة تنبثق بكثرتها، من طريقة حماية المحكمة للحقوق الفردية.
رد: دور القضاء المستقل
*النظام القضائي الفدرالي وحقوق الإنسان
إن أنواع الحقوق التي يحميها دستور الولايات المتحدة ودساتير العديد من الدول الأخرى، حرية التعبير، والصحافة، والمعتقد، والحماية من التوقيف الاعتباطي، والحق في إجراءات عادلة لنظام العدل الجنائي، وغيرها، توحي بأنه كثيراً ما تكون عدوة الحقوق. إذا كانت الأغلبية تؤمن بفكرة معيّنة بشدة فلن ترحّب بسماع الرأي المعارض ويمكن أن تميل إلى كبت هذا الرأي. ولكن بالإجمال يتأثر رفاه المجتمع بالآراء التي لدى الناس. إذا كان معظم السكان في بلد ما يؤمنون بنفس الشدة بدين معين فإن وجود أديان أخرى تبدو أنها تتحدى هذا الدين لن تحظى بشعبية أكثر من شعبية أفكار من أنواع أخرى غير مرغوب بها.
ولكن كما رأينا، فإن نقطة الانطلاق للنظام السياسي الأميركي هو الفرد وحقوقه. يضع الدستور حدود عمل الحكومة، ويمتد ذلك إلى حدود سيطرة الأغلبية على الفرد. من خلال تضمنّه لهذه الحقوق، يضع الدستور بالفعل حدود مجالات الحياة التي يتوجب ترك الفرد لوحده ليقوم بما يعتبره الأفضل ، بحيث يمكنه الموافقة أو عدم الموافقة على آراء الأغلبية، وممارسة العبادة حسب ما يراه ملائماً، والى ما هناك. يصبح السؤال عندئذٍ ماذا يحدث عندما يتعارض ما يراه الشخص حقوقاً مع إرادة الأغلبية؟ هل يمكن الوثوق بالأغلبية في أن تتجاهل أحاسيسها القوية وتحترم مبدأ حقوق الفرد؟
كان جواب واضعي الدستور، كما رأينا، بأنه من السذاجة ترك حماية الحقوق بين أيدي الأغلبية أو تلك الهيئات الحكومية التي تنتخبها الأغلبية. كان من الضروري إنشاء نظام قضائي مستقل لا يخشى التشديد على حقوق الإنسان، بغضّ النظر عن شدة حماس اعتراض الأغلبية.
لقد أخذت المحاكم الفدرالية دورها كحامية لحقوق الإنسان، أو كما يشار إليها عادةً في الولايات المتحدة بالحريات المدنية والحقوق المدنية، بجدية عظيمة، وبفعلها هذا وسّعت نطاق هذه الحقوق بطرق لم يكن لواضعي الدستور قدرة التكهن بها. وفي حين أن كلمة "خصوصية" لم تذكر في نص الدستور، فمثلاً، وجدت المحكمة العليا نيةً في الدستور لحماية الخصوصية في مواد مثل، الضمانة ضد عمليات التفتيش غير المعقولة، وضمان حرية الاتصالات. فسّرت المحكمة العليا حرية التعبير على أنها لا تشمل التلفزيون والإنترنت فحسب بل وأيضاً أشكال غير ناطقة من الاتصالات، مثل التعبير الفني وارتداء رموز حزبية.
في تشديده على حقوق الشعب، إلتزم النظام القضائي بأوامر الدستور دون اعتبار الرغبات الشعبية بطريقة لا تستطيع المحاكم الأقل استقلالية أن تفعله، وأعلن عن هويته كمؤسسة تشكل جزءاً من مفهوم التعاون المتبادل في الحياة السياسية. عندما صادقت محكمة ايرل وارن في العام 1954 بالإجماع على أن التمييز العرقي في المدارس ينتهك ضمانة الدستور للحماية المتساوية لكافة أفراد الشعب فإنها اعترفت، وشجعت بصورة ضمنية حركة الحقوق المدنية الناشئة. وتوصلت المحكمة في ما بعد إلى الشعور بأنها لا تستطيع تفسير الدستور على أنه يُحرّم التمييز العرقي الخاص، لكن قرارات المحكمة شجعت الكونغرس على إبرام قوانين جديدة حققت ذلك، وعندما جرى تحدّي هذه التشريعات التي أصدرها الكونغرس في المحاكم، أيدتها المحكمة العليا. عندما قررت محكمة وارن برغر لأول مرة بأن المساواة بين الجنسين هي من ضمن اهتمامات الدستور فقد اعترفت بالفعل بالوضع المتغير للنساء وأكدت للحركة النسائية الناشئة أن مطالبها سوف تؤخذ بجدية من قبل سلطة واحدة على الأقل من السلطات الحكومية. إن ما أكّدته المحكمة العليا هو أن بإمكان من لا شعبية لهم، وكذلك المختلفين، والذين يتحدّون النظام القائم، طلب عقد جلسة استماع كاملة في حال أصرّوا على أن حقوقهم قد انتهكت.
وهذا هو، في النهاية، التبرير لتعيين قضاة ومنحهم مزية منصب دائم لمدى الحياة. وكما حدث في الانتخابات الرئاسية المُشار إليها، من الجائز أن يعارض مواطنون قرارات محددة تتخذها المحكمة العليا. لكن استقلال النظام القضائي يُطمئن الناخبين بأن المحكمة سوف تستند دائماً في قراراتها إلى القانون وليس على سياسات فئوية، وسوف تعتمد المبادئ الديمقراطية وليس الانفعالات اللحظية. وفي نهاية الأمر، يبقى دور النظام القضائي المستقل هو التطبيق للمعتقد الأميركي القائل بأن حكم الأغلبية هو فقط أحد مظاهر الديمقراطية الحقيقية. إذ تتضمن الديمقراطية أيضاً، بنسبة مهمة، حماية حقوق الفرد وتأمين هذه الحماية هو المهمة الرئيسية للقضاء الفدرالي.
المقال و قراءات إضافية باللغة الإنجليزية
معلومات عن كاتب المقال:
فيليبا ستروم هي أستاذة شرف في العلوم السياسية في كلية بروكلين، جامعة مدينة نيويورك، وأستاذة زائرة في القانون الدستوري، في جامعة ولاية واين. نشرت كتباً ومقالات عديدة حول موضوع الحكومة الأميركية، شملت النظام القضائي الأميركي وحقوق الإنسان.
إن أنواع الحقوق التي يحميها دستور الولايات المتحدة ودساتير العديد من الدول الأخرى، حرية التعبير، والصحافة، والمعتقد، والحماية من التوقيف الاعتباطي، والحق في إجراءات عادلة لنظام العدل الجنائي، وغيرها، توحي بأنه كثيراً ما تكون عدوة الحقوق. إذا كانت الأغلبية تؤمن بفكرة معيّنة بشدة فلن ترحّب بسماع الرأي المعارض ويمكن أن تميل إلى كبت هذا الرأي. ولكن بالإجمال يتأثر رفاه المجتمع بالآراء التي لدى الناس. إذا كان معظم السكان في بلد ما يؤمنون بنفس الشدة بدين معين فإن وجود أديان أخرى تبدو أنها تتحدى هذا الدين لن تحظى بشعبية أكثر من شعبية أفكار من أنواع أخرى غير مرغوب بها.
ولكن كما رأينا، فإن نقطة الانطلاق للنظام السياسي الأميركي هو الفرد وحقوقه. يضع الدستور حدود عمل الحكومة، ويمتد ذلك إلى حدود سيطرة الأغلبية على الفرد. من خلال تضمنّه لهذه الحقوق، يضع الدستور بالفعل حدود مجالات الحياة التي يتوجب ترك الفرد لوحده ليقوم بما يعتبره الأفضل ، بحيث يمكنه الموافقة أو عدم الموافقة على آراء الأغلبية، وممارسة العبادة حسب ما يراه ملائماً، والى ما هناك. يصبح السؤال عندئذٍ ماذا يحدث عندما يتعارض ما يراه الشخص حقوقاً مع إرادة الأغلبية؟ هل يمكن الوثوق بالأغلبية في أن تتجاهل أحاسيسها القوية وتحترم مبدأ حقوق الفرد؟
كان جواب واضعي الدستور، كما رأينا، بأنه من السذاجة ترك حماية الحقوق بين أيدي الأغلبية أو تلك الهيئات الحكومية التي تنتخبها الأغلبية. كان من الضروري إنشاء نظام قضائي مستقل لا يخشى التشديد على حقوق الإنسان، بغضّ النظر عن شدة حماس اعتراض الأغلبية.
لقد أخذت المحاكم الفدرالية دورها كحامية لحقوق الإنسان، أو كما يشار إليها عادةً في الولايات المتحدة بالحريات المدنية والحقوق المدنية، بجدية عظيمة، وبفعلها هذا وسّعت نطاق هذه الحقوق بطرق لم يكن لواضعي الدستور قدرة التكهن بها. وفي حين أن كلمة "خصوصية" لم تذكر في نص الدستور، فمثلاً، وجدت المحكمة العليا نيةً في الدستور لحماية الخصوصية في مواد مثل، الضمانة ضد عمليات التفتيش غير المعقولة، وضمان حرية الاتصالات. فسّرت المحكمة العليا حرية التعبير على أنها لا تشمل التلفزيون والإنترنت فحسب بل وأيضاً أشكال غير ناطقة من الاتصالات، مثل التعبير الفني وارتداء رموز حزبية.
في تشديده على حقوق الشعب، إلتزم النظام القضائي بأوامر الدستور دون اعتبار الرغبات الشعبية بطريقة لا تستطيع المحاكم الأقل استقلالية أن تفعله، وأعلن عن هويته كمؤسسة تشكل جزءاً من مفهوم التعاون المتبادل في الحياة السياسية. عندما صادقت محكمة ايرل وارن في العام 1954 بالإجماع على أن التمييز العرقي في المدارس ينتهك ضمانة الدستور للحماية المتساوية لكافة أفراد الشعب فإنها اعترفت، وشجعت بصورة ضمنية حركة الحقوق المدنية الناشئة. وتوصلت المحكمة في ما بعد إلى الشعور بأنها لا تستطيع تفسير الدستور على أنه يُحرّم التمييز العرقي الخاص، لكن قرارات المحكمة شجعت الكونغرس على إبرام قوانين جديدة حققت ذلك، وعندما جرى تحدّي هذه التشريعات التي أصدرها الكونغرس في المحاكم، أيدتها المحكمة العليا. عندما قررت محكمة وارن برغر لأول مرة بأن المساواة بين الجنسين هي من ضمن اهتمامات الدستور فقد اعترفت بالفعل بالوضع المتغير للنساء وأكدت للحركة النسائية الناشئة أن مطالبها سوف تؤخذ بجدية من قبل سلطة واحدة على الأقل من السلطات الحكومية. إن ما أكّدته المحكمة العليا هو أن بإمكان من لا شعبية لهم، وكذلك المختلفين، والذين يتحدّون النظام القائم، طلب عقد جلسة استماع كاملة في حال أصرّوا على أن حقوقهم قد انتهكت.
وهذا هو، في النهاية، التبرير لتعيين قضاة ومنحهم مزية منصب دائم لمدى الحياة. وكما حدث في الانتخابات الرئاسية المُشار إليها، من الجائز أن يعارض مواطنون قرارات محددة تتخذها المحكمة العليا. لكن استقلال النظام القضائي يُطمئن الناخبين بأن المحكمة سوف تستند دائماً في قراراتها إلى القانون وليس على سياسات فئوية، وسوف تعتمد المبادئ الديمقراطية وليس الانفعالات اللحظية. وفي نهاية الأمر، يبقى دور النظام القضائي المستقل هو التطبيق للمعتقد الأميركي القائل بأن حكم الأغلبية هو فقط أحد مظاهر الديمقراطية الحقيقية. إذ تتضمن الديمقراطية أيضاً، بنسبة مهمة، حماية حقوق الفرد وتأمين هذه الحماية هو المهمة الرئيسية للقضاء الفدرالي.
المقال و قراءات إضافية باللغة الإنجليزية
معلومات عن كاتب المقال:
فيليبا ستروم هي أستاذة شرف في العلوم السياسية في كلية بروكلين، جامعة مدينة نيويورك، وأستاذة زائرة في القانون الدستوري، في جامعة ولاية واين. نشرت كتباً ومقالات عديدة حول موضوع الحكومة الأميركية، شملت النظام القضائي الأميركي وحقوق الإنسان.
مواضيع مماثلة
» القضاء على البطالة
» القضاء الأفغاني يتعزز في ظل محكمة عليا جديدة
» القضاء الأردني يحكم على 10 متهمين بالإرهاب بالسجن بين 15 عاماً والمؤبد
» رئيس مجلس القضاء : لانية لاعتماد الفلك بدلاً من الرؤية للصيا
» التركي يجب القضاء على المساهمات العقارية الوهمية وتضارب الصكوك وتخفيف حدة مشاكل المؤجرين والمستأجرين
» القضاء الأفغاني يتعزز في ظل محكمة عليا جديدة
» القضاء الأردني يحكم على 10 متهمين بالإرهاب بالسجن بين 15 عاماً والمؤبد
» رئيس مجلس القضاء : لانية لاعتماد الفلك بدلاً من الرؤية للصيا
» التركي يجب القضاء على المساهمات العقارية الوهمية وتضارب الصكوك وتخفيف حدة مشاكل المؤجرين والمستأجرين
نجــــــــــــــــــــــــــــــــــــد :: نجـــــــــد العامـــــــــــــــــــــــــــــــة :: تقارير أمريكية
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى