الدستورية:أميركا وما يتعداها
نجــــــــــــــــــــــــــــــــــــد :: نجـــــــــد العامـــــــــــــــــــــــــــــــة :: تقارير أمريكية
صفحة 1 من اصل 1
الدستورية:أميركا وما يتعداها
الدستورية:
أميركا وما يتعداها
بقلم غريغ راسيل
أميركا وما يتعداها
بقلم غريغ راسيل
"تتمثل حرية الناس تحت حكم ما بأن يكون لهم نظام يعيشون بموجبه، يُطبّق على كل الناس في المجتمع، وتسنّه سلطة تشريعية لدى ذلك المجتمع."
جون لوك، الرسالة الثانية، الفصل الرابع
الدستورية، أو حكم القانون، تعني أن يكون لسلطة القيادات ولمؤسسات الحكم حدود، وأن يكون فَرض هذه الحدود ممكناً من خلال إجراءات قائمة. وبوصفها مجموعة من المبادئ السياسية والقانونية، فإن الدستورية تعني حكما مُكرّسا، في المقام الأول، لخير المجتمع بأكمله ولصون حقوق الأفراد.
نشأ الحكم الدستوري، الذي تنبع جذوره من الأفكار السياسية الليبرالية، في أوروبا الغربية والولايات المتحدة دفاعاً عن حق الفرد في الحياة والملكية، وفي حرية العبادة والتعبير. ومن أجل ضمان هذه الحريات، شدد واضعو الحكم الدستوري على ضرورة وجود تقييدات لصلاحيات كل من سلطات الحكم، وعلى المساواة أمام القانون، ونزاهة المحاكم، وفصل الدين عن الدولة. من أفضل من عبّر عن هذه التقاليد الشاعر جون ميلتون، والعالمان القانونيان إدوارد كوك ووليام بلاكستون، ورجال الدولة أمثال توماس جيفرسون وجيمس ماديسون، والفلاسفة أمثال توماس هوبز، وجون لوك، وآدم سميث، والبارون دو مونتيسكيو، وجون ستيوارت ميل، وإيزايا برلين.
إن المشاكل التي قد تكتنف الحكم الدستوري في القرن الحادي والعشرين ستكون على الأرجح هي مشاكل الحكومات المعتبرة ديمقراطية. إن الظاهرة الحديثة "للديمقراطية غير الليبرالية" تكسب شرعيتها، وبذلك قوتها، من أن الأنظمة التي تبرز فيها تبدو ديمقراطية نسبياً. الديمقراطية غير الليبرالية، أي الحكم الديمقراطي الشكلي الذي لا يتضمن الدستورية الليبرالية، هو ليس غير كاف فحسب، بل إنه خطر، إذ أنه ينطوي على تقليص للحرية، وإساءة استخدام السلطة، والانقسامات الإثنية، وحتى الحرب. لم يقترن انتشار الديمقراطية في مختلف أنحاء العالم دائماً بانتشار مواز للحرية الدستورية. فهناك عدد من القادة المنتخبين ديمقراطياً استخدموا سلطاتهم لتبرير الحد من الحريات. إن تقليداً حياً من الحرية السياسية يسهم في ما هو أبعد من الانتخابات الحرة والنزيهة، أو من توفير المزيد من الفرص للتعبير عن الآراء السياسية. الديمقراطية الليبرالية توفّر أيضاً أساساً قانونياً للفصل بين سلطات الحكم، وذلك دعماً للحريات الأساسية كحرية التعبير، والاجتماع، والعبادة، والملكية.
* الدستورية: الأسس التاريخية
وجدت النظريات الحديثة لليبرالية السياسية تعبيراً عملياً في الكفاح من أجل قيام حكومة دستورية. لقد تحققت أولى انتصارات الليبرالية، وربما أهمها، في إنجلترا. كان من الطبقة التجارية البارزة، التي دعمت أسرة تيودور الملكية في القرن السادس عشر، أن قادت الحرب الثورية في القرن السابع عشر، ونجحت في إرساء سيادة البرلمان، وفي نهاية المطاف، سيادة مجلس العموم. وما برز كسمة متميزة للدستورية العصرية لم يكن الإصرار على فكرة إخضاع الملك للقانون (مع أن هذا المفهوم هو صفة جوهرية لكل أشكال الدستورية). كانت هذه الفكرة قد أصبحت راسخة في العصور الوسطى. أما السمة المتميزة فكانت إقامة سبل فعّالة للسيطرة السياسية حيث يمكن تطبيق حكم القانون. وُلدت الدستورية العصرية مع الحاجة السياسية لأن يعتمد الحكم التمثيلي على رضى المحكومين.
إضافة إلى ذلك، كان الحكم الدستوري العصري مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالوضع الاقتصادي وبسلطة الإنفاق، أي بالفكرة القائلة إنه يجب تمثيل المكلفين الذين تمول ضرائبهم أعمال الحكومة في تلك الحكومة. والمبدأ القائل إن الموارد الاقتصادية وتلبية حاجات المواطنين أمران متلازمان هو العنصر الأهم في الحكم الدستوري العصري. كان تناقص العائدات الإقطاعية للملوك، ونمو المؤسسات التمثيلية، والشعور بالتضامن القومي، لا الولاء الرمزي للملك والبلاط، هو الذي أدى إلى جعل الحد من السلطة الملكية أمراً حقيقياً وفعّالا.
لكن الثورة الإنجليزية لم تقم، كما يلاحظ من أحكام وثيقة الحقوق الصادرة عام 1689، لمجرد حماية حقوق التملك (بالمعنى الضيق)، ولكن لإرساء تلك الحقوق التي رأى الليبراليون أنها ضرورية لكرامة الإنسان وقيمته المعنوية. إن "حقوق الإنسان" التي تضمنها ميثاق الحقوق الإنجليزي بدأت تعلن تدريجياً خارج حدود إنجلترا، خاصة في إعلان الاستقلال الأميركي العام 1776، وفي الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان العام 1789. وشهد القرن الثامن عشر بروز حكم دستوري في الولايات المتحدة وفرنسا، كما شهد القرن التاسع عشر امتداداً له بدرجات متباينة من النجاح في ألمانيا، وإيطاليا، وبلدان أخرى من العالم الغربي.
* الدستورية وتراث المؤسسين الأميركيين
يقوم النظام الدستوري للمجتمع الأميركي على أساس رضى الرجال والنساء العاقلين الأحرار، كما يُعبّر عنه في "العقد الاجتماعي" بأنه ثقة تنشأ لغايات محدودة. بلغ تأثير نظريات "العقد الاجتماعي" أوجه في أوروبا خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، وهي تنسب إلى الفيلسوفين الإنجليزيين توماس هوبز وجون لوك، والفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو. برّر هؤلاء المفكرون قبول الأفراد بالالتزام السياسي تجاه المجتمع على أساس المصلحة الذاتية والمنطق، وأدركوا تماماً مزايا مجتمع مدني تكون لأفراده حقوق وواجبات، مقارنة بمساوئ "الحالة الطبيعية"، وهي وضع نظري افتراضي يتصف بغياب تام للسلطة الحكومية. إن فكرة "العقد الاجتماعي" هذه تعكس إدراكاً أساسياً بأنه يجب إنشاء مجتمع قابل للحياة، وليس حكومة له فقط، إذا كان للحكم الحر أن يقوم، وإذا كان للبشر أن يكونوا في مأمن من التأثيرات الانفعالية التي تؤدي إلى الفوضى، والطغيان، والتمرد على نظام البقاء المتّزن. أشار جون جاي، في العدد الثاني من مجلة الفدرالي، بأن على المرء أن يتخلّى عن بعض الحقوق الطبيعية للمجتمع إذا كان للحكم أن يتمتع بالسلطة اللازمة له كي يعمل لضمان الخير العام. نتيجة ذلك، فإن مساهمة المواطن في الحكم الديمقراطي الدستوري تقترن بمسؤولية التقيّد بقوانين وقرارات المجتمع العائدة لأعماله العامة، حتى ولو كان المواطن غير موافق أبداً على تلك الأعمال. يرى أرسطو وسبينوزا أن كلاًّ من "الرجل المتوحش"، أي المجرم أو الفوضوي، و"الرجل الإله"، أي الذي يُحتمل له أن يصبح دكتاتوراً، والذي يتولى بنفسه فرض تطبيق القواعد والقوانين، يجب أن يتم إخضاعه أو طرده من المجتمع. ويتفق معهما في هذا الرأي هوبز، ولوك، والآباء المؤسسون الأميركيون. هذا هو الشرط الضروري لقيام مجتمع مدني، وبدونه يتعذر قيام ذلك المجتمع. لا يكفي أن تكون قوانين وسياسات الحكم الديمقراطي محدودة في مداها وتستند إلى رضى المحكومين، بل يجب أن تعمل أيضاً في سبيل خير الناس والمجتمع بشكل عام، وخير كل فرد في ذلك المجتمع.
إن رجال الدولة الأميركيين، الثوريون منهم وواضعو الدستور، يعتبرون أنهم أصحاب هذا التراث في مسيرة التاريخ الأميركي، من إعلان الاستقلال (1776)، إلى مواد النظام الكونفدرالي (1781)، وانتهاء الحرب الثورية (1783)، وصياغة الدستور (1787)، والمصادقة على وثيقة الحقوق (1791). هناك عدد من المواضيع النموذجية التي تتشارك في تمثيلها لهذا الكفاح الأميركي من أجل الحرية والدستورية.
* سيادة الشعب
"نحن الشعب .. نسُّن وننشئ هذا الدستور". هذه الكلمات تتضمنها مقدمة الدستور وتعبّر عن مبدأ سيادة الشعب، أو حكم الشعب. لقد صاغ واضعو الدستور وثيقة للحكم، وعرضوها على الشعب لنيل موافقته، استناداً إلى المفهوم القائل إن السلطة السياسية النهائية لا تكمن لدى الحكومة أو لدى أي مسؤول حكومي، بل لدى الشعب. "نحن الشعب" نملك الحكم، ولكن بموجب ديمقراطيتنا التمثيلية، نفوّض هيئة مؤلفة من ممثلين لنا منتخبين صلاحيات القيام بأعمال الحكم اليومية نيابة عنا. ولكن تفويض هذه الصلاحيات، لا ينال أو ينقص بأي شكل من الأشكال من حقوق الناس ومسؤولياتهم باعتبارهم هم أصحاب السيادة العليا. إن شرعية الحكم تبقى معتمدة على المحكومين، الذين يحتفظون بحقهم المكرّس في أن يغيّروا حكومتهم، أو يعدّلوا دستورهم، بطريقة سلمية.
* سيادة القانون
تقضي النظرية الدستورية بأن يكون الحكم عادلاً ومتزناً، لا من وجهة نظر مشاعر الأكثرية وحسب، بل أيضاً من ناحية انسجامه مع قانون أعلى يشير إليه إعلان الاستقلال بتعبير "قوانين الطبيعة وإله الطبيعة". كان "القانون البياني للعام 1766" الذي أصدره البرلمان البريطاني، وأعلن فيه خضوع المستوطنات الأميركية للتاج البريطاني "وارتباطها به في كل الأمور"، تجسيداً للتناقض بين سيادة القانون والحكم بموجب القانون. فسيادة القانون تعني التوجه إلى معيار أعلى للقانون والعدل، يتعدّى النصوص الوضعية ويكون مفهوماً من الجميع، لا إلى القانون العادي الذي يسنّه السياسيون في وقت ما. آمن المؤسسون بأن سيادة القانون هي شريان حياة النظام الاجتماعي الأميركي والحريات المدنية الأساسية. وتَعني سيادة القانون أن نكون محكومين في علاقاتنا مع بعضنا البعض (ومع الدولة) بمجموعة من القواعد غير المتحيّزة نسبياً، لا بمجموعة من الناس. وعند ذلك يقل احتمال أن نصبح ضحايا حكم تعسفي أو سلطوي. تجدر الإشارة هنا إلى أن الموجب السياسي الذي تتضمنه سيادة القانون لا ينطبق على حقوق وحريات الرعايا والمواطنين فحسب، ولكنه ينطبق بالمثل على الحكّام. أقام واضعو الدستور حاجزاً حامياً لحقوق وحريات الأفراد بمنعهم الفرد والدولة من تجاوز القانون الأعلى للبلاد.
* الفصل بين السلطات ونظام الضوابط والتوازنات
كان على الآباء المؤسسين إيجاد حل لمسألة كيفية إقامة حكم القانون لا حكم الناس، عندما لم يكن هناك من يتولّى الحكم سوى الناس. كان هؤلاء الزعماء سياسيين واقعيين حاولوا الربط بين روح الفكرة الدستورية وبين المزايا الفريدة لزمانهم ومكانهم. ولعل أفضل تعبير عن هذه المعضلة الفلسفية والعملية هو قول جيمس ماديسون في العدد 51 من مجلة الفدرالي. فقد قال ماديسون إنه كان على الطموح أن يوازن الطموح. كان على مصالح الناس أن ترتبط بصورة لا تنفصم مع الحقوق الدستورية للمكان. توحي معرفة بسيطة للطبيعة البشرية بأن "مثل هذه الوسائل لا بد أن تكون ضرورية لضبط سوء استعمال الحكم". لو كان الناس ملائكة، لا يعود من الضروري وضع ضوابط خارجية أو داخلية للحكم. ولكن ماديسون كان رجلاً واقعياً. الحكم الدستوري، كما قال ماديسون، يستلزم سياسة "توفير مصالح متعارضة ومتنافسة لمعالجة النقص في الدوافع الأفضل". إن الإطار الدستوري، المبني على الاحترام العاقل (أو الحكيم) لبني البشر، عليه تمكين الحكم من ضبط المحكومين. ولكن ما لا يقل أهمية عن ذلك هو وجود التدبير الوقائي الإضافي المتمثل بوجود ضوابط وتوازنات داخل الحكم.
ضمن واضعو الدستور بتوزيعهم للعمل الحكومي على ثلاث سلطات مستقلة، أن لا تكون سلطات الحكم الرئيسية، أي التشريعية والتنفيذية والقضائية، خاضعة لاحتكار أي واحدة منها. كما حال توزيع السلطة الحكومية على ثلاث سلطات مستقلة دون قيام حكومة مركزية قوية جداً قادرة على فرض سلطتها على حكومات الولايات. وكان من المقصود جعل سلطات ومسؤوليات الحكم متداخلة. من الأمثلة على ذلك كيفية ضبط صلاحية الكونغرس في إصدار القوانين بواسطة حق النقض (الفيتو) الذي يتمتع به الرئيس. لكن حق الرئيس هذا يمكن أيضاً إبطاله بتصويت ثلثي أعضاء مجلسي الكونغرس على ذلك. الرئيس هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، ولكن للكونغرس وحده صلاحية إنشاء الجيوش وتوفير ما يلزمها، وصلاحية إعلان الحرب رسمياً. يتمتع الرئيس بصلاحية تعيين كل القضاة الفدراليين، والسفراء، وسائر كبار الموظفين الحكوميين، ولكن كل هذه التعيينات يجب أن تقترن بموافقة مجلس الشيوخ لتصبح نافذة. كما أن ما من قانون يُمكن أن يصبح نافذاً ما لم يوافق عليه مجلسا الكونغرس معاً.
للمحكمة العليا الصلاحية النهائية لإبطال قوانين تشريعية أو تنفيذية لعلة كونها غير دستورية. هنا تكمن جذور المراجعة القضائية وقوة القضاء الفدرالي في الولايات المتحدة في أعقاب دعوى ماربوري على ماديسون (العام 1803). لا تنبع صلاحية المراجعة القضائية من الدستور الأميركي المدوّن، الذي لا يتضمن أي إشارة صريحة إلى هذه الصلاحية، بل من مجموعة قرارات أصدرتها المحاكم في قضايا نظرت فيها بدءاً من أواخر القرن الثامن عشر. الأمر المشترك في هذه القضايا، على الأقل كتبرير فلسفي أو أخلاقي لسلطة المحكمة، هو الصلة بين المراجعة القضائية والقانون الأعلى. كان الأميركيون في ذلك الوقت يتبنّون الفكرة القائلة إنه إذا خالف القانون الوضعي أو قانون البشر قانون الطبيعة، لا يعود قانوناً بل يصبح انحرافاً عن القانون. والفكرة العامة في هذا الصدد يعبّر عنها جيمس أوتيس في مقال له بعنوان "تأكيد وإثبات حقوق المستوطنات البريطانية" نشر العام 1764، والذي يحدد فيه:
"قانون الطبيعة ليس من صنع الإنسان، ولا قدرة للإنسان على تعديله أو تغيير مساره. جلّ ما يمكنه القيام به هو إما فقط اتباعه والتقيّد به أو عدم التقّيد به ومخالفته. والأمر الأخير لا يمكن أبداً القيام به دون عقاب، حتى في هذه الحياة، إن كان العقاب لأي إنسان هو أن يشعر بأنه محروم، وأن يجد نفسه أدنى منزلة من الأخيار والصالحين بفعل غبائه وشرّه ليصبح في منزلة البهائم، أو أن يتحوّل من صديق، أو ربما أب لبلده إلى أسد أو نمر مفترس."
رد: الدستورية:أميركا وما يتعداها
الفدرالية
قرر الآباء المؤسسون أيضاً توزيع السلطة بين مستويين من الحكم: مستوى البلاد ككل، أو المستوى القومي، ومستوى الولايات. وقد أدّى عجز مواد النظام الكونفدرالي (1781 – 1787) عن إقامة حكم قابل للحياة للمستوطنات الأميركية إلى قيام المندوبين إلى المؤتمر الدستوري العام 1787 في فيلادلفيا بإعطاء الحكم المركزي قدراً أكبر من السلطة. كانت مواد النظام الكونفدرالي بمثابة جسر يصل بين نظام الحكم الذي أقامه الكونغرس القاري خلال المرحلة الثورية في بادئ الأمر، وبين نظام الحكم الفدرالي الذي أقامه الدستور الأميركي الصادر عام 1787. ولأن تجربة السلطة المركزية البريطانية المتسلطة كانت واضحة في أذهان المعنيين إبان المرحلة الثورية، فقد تعمّد واضعو مواد ذلك الدستور إلى إنشاء كونفدرالية من الولايات المستقلة. لكن هذه المواد لم تعط الكونغرس صلاحية فرض ما يتطلبه من أموال أو جنود من الولايات، وبنهاية العام 1786، انهارت فعالية الحكم.
بموجب الدستور الأميركي حلّت الفدرالية محل الكونفدرالية، والفدرالية نظام تتقاسم فيه السلطة حكومة مركزية أو قومية واحدة مع حكومات الولايات. قضى الدستور بأن تكون الحكومة المركزية صاحبة السلطة العليا في بعض المجالات، ولكنه لم يجعل حكومات الولايات مجرّد وحدات إدارية تابعة للحكومة المركزية. تمت حماية حقوق الولايات بطرق عدة. أولاً، أوضح التعديل العاشر للدستور أن هناك عدداً من مجالات العمل الحكومي يبقى مخصصاً للولايات. على سبيل المثال، تكون حكومات الولايات هي المسؤولة بصورة عامة عن إدارة ميزانياتها وعن سن وتنفيذ القوانين في العديد من المجالات التي تؤثر في حياة سكانها. ثانياً، تمت حماية الولايات كذلك عن طريق تمثيلها في مجلس الشيوخ الأميركي: فقد حُدد لكل ولاية عضوان في ذلك المجلس أيّاً كان عدد سكانها. ثالثاً، تم جعل الهيئة الانتخابية، وهي الهيئة التي تنتخب رئيس البلاد رسمياً، مؤلفة من مجموع ناخبي الرئيس الذين تنتخبهم الولايات بحيث يكون لكل ولاية ثلاثة مندوبين على الأقل. رابعاً، راعت عملية تعديل الدستور نفسه مصالح الولايات، لأن أي تعديل للدستور يستوجب موافقة ثلاثة أرباع كل الهيئات التشريعية في الولايات إضافة إلى موافقة ثلثي أعضاء مجلسي الكونغرس. هذه الحمايات وُضعت في صلب الدستور أيضاً لحماية الولايات الصغيرة من سيطرة الولايات الأكبر. إن مشاطرة السلطة بين الولايات والحكومة القومية هي عنصر بنيوي إضافي ضمن النظام المتقن للضوابط والتوازنات.
* الكفاح في سبيل الحقوق الفردية
تطلّعت مقدمة الدستور إلى نظام سياسي أميركي جديد يستند إلى المبادئ التالية: إقامة اتحاد أكثر كمالاً، تأمين متطلبات الدفاع المشترك، إرساء العدالة، وضمان نِعَم الحرية لأجيال الحاضر والمستقبل. وحتى قبل هذا، أشار إعلان الاستقلال إلى "حقوق لا يجوز التصرف بها" تُلازم كل الناس بصفتهم بشراً، ولا يجوز لأي حكم أن يحرمهم منها. أما السبيل الأفضل لضمان العدالة ونِعَم الحرية (آنذاك كما اليوم)، فكان موضوع خلافات حزبية حادة. عندما صيغ الدستور لأول مرة وعُرض على الولايات للمصادقة عليه، لم تتضمن مواده أي إشارة إلى الحقوق الفردية. أحد التفسيرات لهذه أن واضعي الدستور افترضوا أن الحكم القومي المُنشأ حديثاً كان محدوداً بعناية كبيرة لم تعد معها الحقوق الفردية تستلزم أي مزيد من الحماية. إضافة إلى ذلك، أظهر مؤيدون آخرون للنظام الفدرالي أن تعداد المزيد من الحقوق يؤدي إلى المزيد من المسؤولية، أي أن الحقوق التي تُعتبر جوهرية والتي لا يجري تحديدها يمكنها أن تتعرّض لتعدّي الحكومة.
رغم هزيمة مناوئي الفدرالية في معركة صياغة دستور العام 1787، فقد تمكنوا من فرض تنازلات على معارضيهم. فلخشيتهم من سلطة الحكومة القومية الجديدة، طالبوا بأن يتضمن نص الدستور مجموعة من الحمايات المحددة للحقوق الفردية. وحصلوا أيضاً على تعهدات من الزعماء المؤيدين للفدرالية في بعض المؤتمرات التي عُقدت في الولايات بدعم الموافقة على تعديلات مناسبة للدستور. وهددت بعض الولايات بعدم المصادقة على الدستور إذا لم تحصل على ضمانات بالموافقة على وثيقة الحقوق. قام مؤيدو الفدرالية بالوفاء بتعهداتهم. ففي العام 1789، تبّنى الكونغرس الأول للولايات المتحدة التعديلات العشرة الأولى للدستور. وبحلول العام 1791، كانت وثيقة الحقوق، التي تشمل التعديلات العشرة الأولى للدستور، قد حظيت بمصادقة العدد اللازم من الولايات لتصبح نافذة. إضافة إلى ذلك، أدّى التعديل التاسع للدستور، الذي يحمي بصورة صريحة الحقوق الجوهرية التي لا ينص عليها الدستور بصورة محددة، إلى تخفيف مخاوف مؤيدي النظام الفدرالي بالنسبة لتعريض حماية الحقوق التي لم تُذكر بالتحديد للخطر، في حال تم ذكر حماية أي حق معيّن دون غيره.
تحد وثيقة الحقوق من قدرة الحكومة على التعدي على حقوق فردية معيّنة، منها حرية التعبير، والصحافة، والتجمّع، والعبادة. كما تمنع الكونغرس من سن قوانين تتعلق بإنشاء أي دين رسمي، أو تفضيل أي دين على آخر. يتناول ثلثا وثيقة الحقوق تقريباً حماية حقوق المشتبه بارتكابهم جرائم، أو المتهمين بارتكاب جرائم. تشمل هذه الحقوق وجوب مراعاة الأصول القانونية المتبعة، والمحاكمات النزيهة، وعدم جواز تجريم الذات، وعدم جواز فرض عقوبات شديدة القسوة وغير معتادة، وعدم جواز محاكمة المرء أكثر من مرة بنفس الجريمة. وعندما تم تبنّيها لأول مرة، لم تكن وثيقة الحقوق تنطبق إلا على أعمال الحكومة القومية أو الفدرالية.
إن تقييد تعديات الولايات على الحريات المدنية كان موضوع تعديلات الدستور الثالث عشر (1865)، والرابع عشر (1868)، والخامس عشر (1870)، أي تلك التي تسمّى بتعديلات إعادة البناء التي صدرت بعد الحرب الأهلية، والتي كان المقصود بها إزالة مؤسسة الرق. خلال فترة المئة سنة الماضية، تم ضّم العديد من الحريات التي تنص عليها التعديلات العشرة الأولى من الدستور إلى ما ينص عليه التعديل الرابع عشر من ضمانات بالنسبة لعدم إمكان أي ولاية من منع مواطنيها من تطبيق الأصول القانونية أو من الحماية المتساوية أمام القانون. في فترة ما بعد العشرينات من القرن الماضي على الأخص، لعبت التعديلات العشرة الأولى للدستور دوراً متزايد الفعالية والأهمية في حل المسائل الصعبة المتعلقة بالسياسة العامة، من دستورية قوانين الصلاة في المدارس والفحص الإلزامي لمعرفة ما إذا كان الشخص المعني يتعاطى المخدرات، إلى دستورية قوانين منع الحمل وعقوبة الإعدام. كما اتخّذت المبادئ الأساسية التي تبناها المؤسسون، مثل مبادئ "العدالة" و"الحرية"، والمبادئ الدستورية مثل "مراعاة الأصول القانونية" و"الحماية المتساوية أمام القانون"، معان جديدةلدى الأجيال المتعاقبة. تعكس هذه التطورات، التي رافقتها في غالب الأحيان حركات احتجاجية وأعمال عصيان مدني، التغييرات في الأحاسيس البشرية والأعراف الاجتماعية خلال المئتي سنة الماضية.
يكمن التبرير الفلسفي لوثيقة الحقوق في أنها تضع بعض الحريات خارج متناول الأكثرية، وذلك على أساس ان حرمان المواطنين من حقوق أساسية جوهرية من شأنه النيل من وضعهم المدني، وفي الواقع من إنسانيتهم. إن مجموعة الحقوق التي تضمنها وثيقة الحقوق، ويضمنها الدستور، تُشكل جوهر الحكم الحر. الحقوق المدنية يمكن أن تنبع بصورة مباشرة من الحقوق الطبيعية أو بصورة غير مباشرة من ترتيبات سياسية في مجتمع مبني على رضى الناس الذي يمنحونه عبر الدساتير، والقوانين، والقانون العام. إن قصة نجاح ماديسون وزملاءه في المؤتمر الدستوري، خلال الكونغرس الأول، تعكس الطريقة التي اعتمدوها في وضع مجموعة تتعدل ذاتياً من العمليات والهيكليات التي يمكن لها ان تفرض قانونياً احترام الحقوق ووضع المعايير اللازمة من هذه الحقوق في الولايات المتحدة.
* الدستورية، الحرية، والنظام العالمي الجديد
أدت نهاية الحرب الباردة، وانهيار الاتحاد السوفياتي والدول الشيوعية التي تدور في فلكه في أوروبا الشرقية، إلى تولّد شعور بالانتصار والتفاؤل حيال الوعود التي تقدمها الأفكار الليبرالية - الديمقراطية، والحكم الدستوري. في كانون الأول/ديسمبر عام 2000، نشرت مؤسسة فريدوم هاوس (بيت الحرية)، وهي منظمة لا تتوخى الربح تُروج للديمقراطية عبر العالم، دراسة واسعة النطاق تتناول بالتفصيل وضع الحقوق السياسية والحريات المدنية في عالمنا الذي أصبح يتألف من 191 دولة في يومنا هذا. بيّنت الدراسة، وهي بعنوان "الحرية في العالم 2000 - 2001"، أن اتجاهاً بدأ قبل عشر سنوات نحو المكاسب الإيجابية التدريجية في مجال الحرية، وأنه تواصل في العام 2000. وفي المسح الذي تجريه المنظمة سنوياً تم تصنيف 86 بلداً مجموع سكانها 2500 مليون نسمة (أو نسبة 7.40 بالمئة من سكان العالم، وهي أكبر نسبة تسجل في المسح الذي تجريه المنظمة) على أنها بلدان حرة. يتمتع سكان هذه البلدان بمجموعة كبيرة من الحقوق. كما تم تصنيف 59 بلداً مجموع سكانها 1400 مليون نسمة (أي نسبة 8.23 بالمئة من سكان العالم) على أنها بلدان "حرة جزئياً." الحقوق السياسية والحريات المدنية في هذه البلدان محدودة أكثر مما هي في الفئة السابقة، وتتسم هذه البلدان في معظم الأحيان بالفساد، ووجود أحزاب حاكمة مسيطرة، وتعاني في بعض الحالات من نزاعات إثنية أو دينية. كما يُصنّف المسح 47 بلداً عدد سكانها 2200 مليون نسمة (أي ما نسبته 5.35 بالمئة من سكان العالم) على أنها "غير حرة". سكان هذه البلدان محرومون من الحقوق السياسية الأساسية والحريات المدنية.
يعزّز المسح الذي أجرته "فريدوم هاوس" الاعتقاد الشائع بأنه لم تعد للديمقراطية بدائل يمكن الاعتماد عليها؛ وإنها أصبحت الحصن الراسخ الوحيد للحداثة. لكن هناك جزءاً آخر من تراث مرحلة ما بعد الحرب الباردة يُشكّل قدراً كبيراً من التحدي والمشاكل للمفكرين السياسيين وصانعي السياسة على حد سواء. فهناك بعض الأنظمة المنتخَبة ديمقراطياً، غالباً من تلك التي أعيد انتخابها أو أعيد تأييدها بواسطة الاستفتاءات، تتجاهل بصورة روتينية الحدود الدستورية المفروضة على سلطتها وتحرم مواطنيها حقوقهم وحرياتهم الأساسية. وفي العديد من مناطق العالم، نشهد بروز ظاهرة مقلقة في الحياة الدولية هي ظاهرة الديمقراطية غير الليبرالية.
يكمن في صميم هذا الأمر الفرق بين الديمقراطية والحكم الدستوري. ولقد كان من الصعب إدراك هذه المشكلة لأنه، على مدى قرن على الأقل في الغرب، كانت الديمقراطية تَعني الديمقراطية الليبرالية. إن المزيج من الحريات التي تقوم عليها الليبرالية الدستورية هو من الناحية النظرية مستقل عن الديمقراطية. ومنذ أيام أفلاطون وأرسطو، والديمقراطية تَعني حكم الشعب. هذه النظرة إلى الديمقراطية، كعملية لاختيار الحكومات، عبّر عنها مفكرون عديدون، بدءاً من ألكسيس دو توكفيل إلى جوزف شومبيتر وروبرت دال.
وقد أوضح العالم السياسي صامويل هانتينغتون سبب ذلك، إذ قال: إن الانتخابات، الحرة والنزيهة، هي جوهر الديمقراطية، الأساس الذي لا مفر منه. ومع ذلك، قد تكون الحكومات التي تُنتجها انتخابات حكومات لا تتمتع بالكفاءة، وحكومات فاسدة، وقصيرة النظر، وغير مسؤولة، وتسيطر عليها المصالح الخاصة، وغير قادرة على تبنّي السياسات التي يتطلبها الخير العام. في حين تجعل هذه الصفات مثل تلك الحكومات غير مرغوب فيها، فإنها لا تجعلها حكومات غير ديمقراطية.
الديمقراطية فضيلة عامة، ولكنها ليست الفضيلة الوحيدة، وعلاقة الديمقراطية بالفضائل والنقائص العامة الأخرى لا يُمكن فهمها إلا إذا تمّ تمييز الديمقراطية تمييزاً واضحاً عن الصفات الأخرى للأنظمة السياسية. ولكن الانتخابات وتعبئة الشعب سياسياً لا تؤديان دائماً إلى قيام حكم دستوري ليبرالي. هناك عدم ارتياح متزايد من الانتشار السريع للانتخابات المتعددة الأحزاب في جنوب ووسط أوروبا، وآسيا، وإفريقيا، وأميركا اللاتينية، ربما بسبب ما يحصل بعد الانتخابات. فبعض زعماء البلدان المنتخَبين، ذوي الشعبية، يتجاوزون برلمانات بلدانهم ويحكمون بالمراسيم الرئاسية، متسببين بإضعاف الممارسات الدستورية الأساسية.
هناك بالطبع نطاق متنوع من الديمقراطية غير الليبرالية، يتراوح بين أنظمة تقوم فيها مخالفات بسيطة وبين أنظمة شبه استبدادية. في أميركا اللاتينية، صَمدت عدة أنظمة ديمقراطية لأكثر من عقد حتى الآن وهي تعاني أوضاعاً اقتصادية سيئة، دون ان تواجه تحديات واضحة من القوات المسلحة أو من أحزاب تعارض النظام. رغم هذا ما زال معظم هذه الأنظمة غير راسخة. فبعض البلدان صمد في وجه الضعف المؤسساتي والبنيوي للديمقراطية. لكن ترسيخ الديمقراطية لا يكتمل دون استناده إلى الليبرالية الدستورية. فبالإضافة إلى الاتفاق على قواعد التنافس على السلطة، يجب ان تكون هناك تقييدات أساسية ذاتية الدعم لممارسة السلطة. فمن بين نتائج الإفراط في التشديد على الديمقراطية الصرفة كأفضل اختبار لوجود الحرية، لم يتم بذل الجهد اللازم لوضع دساتير مبتكرة للبلدان التي تمر في مرحلة انتقالية. وهذا لا يتم بمجرد إجراء انتخابات متكررة أو وضع لائحة تعدّد الحقوق، بل بإقامة نظام لا ينتهك هذه الحقوق. الحكم الدستوري يتطلع إلى ما يتعدى إجراءات اختيار الحكومة، إنه يتطلع إلى ترتيبات يتم وضعها عن طريق التداول، وبمعزل عن الانفعالات الشعبية، تدافع عن الحرية الفردية وسيادة القانون. هذا يتطلّب التزاماً متبادلاً بين فئات النخبة، من خلال آلية تنسيق تتمثل بالدستور والمؤسسات السياسية المرتبطة به، وفي غالب الأحيان من خلال اتفاق أو تسوية بين النخبة، حيث تحافظ الحكومات على النظام عن طريق بناء ائتلافات بين أبرز الأحزاب السياسية ومجموعات أصحاب المصالح. الهدف هنا هو فرض حدود لسلطة الدولة، أياً كان الحزب أو الفئة التي تسيطر على الدولة في وقت ما. في بداية القرن العشرين، أراد وودرو ولسون جعل العالم مكاناً آمناً للديمقراطية. والتحدي في القرن القادم قد يكون جعل الديمقراطية نظاماً آمناً للعالم.
معلومات عن كاتب المقال:
غريغ راسيل هو أستاذ مشارك ومدير الدراسات العليا في دائرة العلوم السياسية في جامعة اوكلاهوما في نورمن. هو مؤلف كتاب: هانس جاي مورغنثو وأخلاقيات فن الحكم الأميركي، وكتاب: جون كوينسي أدامز والفضائل العامة للدبلوماسية، وكتاب تسوية الحقوق الداخلية والأخطاء الخارجية: قوة السلاح والأفكار أثناء الحرب. كذلك قام بنشر مقالات في مجالات الفلسفة السياسية، وتاريخ الدبلوماسية الأميركية، والعلاقات الدولية. ويقوم راسيل بإنهاء مخطوطة عن فن حكم ثيودور روزفلت.
قرر الآباء المؤسسون أيضاً توزيع السلطة بين مستويين من الحكم: مستوى البلاد ككل، أو المستوى القومي، ومستوى الولايات. وقد أدّى عجز مواد النظام الكونفدرالي (1781 – 1787) عن إقامة حكم قابل للحياة للمستوطنات الأميركية إلى قيام المندوبين إلى المؤتمر الدستوري العام 1787 في فيلادلفيا بإعطاء الحكم المركزي قدراً أكبر من السلطة. كانت مواد النظام الكونفدرالي بمثابة جسر يصل بين نظام الحكم الذي أقامه الكونغرس القاري خلال المرحلة الثورية في بادئ الأمر، وبين نظام الحكم الفدرالي الذي أقامه الدستور الأميركي الصادر عام 1787. ولأن تجربة السلطة المركزية البريطانية المتسلطة كانت واضحة في أذهان المعنيين إبان المرحلة الثورية، فقد تعمّد واضعو مواد ذلك الدستور إلى إنشاء كونفدرالية من الولايات المستقلة. لكن هذه المواد لم تعط الكونغرس صلاحية فرض ما يتطلبه من أموال أو جنود من الولايات، وبنهاية العام 1786، انهارت فعالية الحكم.
بموجب الدستور الأميركي حلّت الفدرالية محل الكونفدرالية، والفدرالية نظام تتقاسم فيه السلطة حكومة مركزية أو قومية واحدة مع حكومات الولايات. قضى الدستور بأن تكون الحكومة المركزية صاحبة السلطة العليا في بعض المجالات، ولكنه لم يجعل حكومات الولايات مجرّد وحدات إدارية تابعة للحكومة المركزية. تمت حماية حقوق الولايات بطرق عدة. أولاً، أوضح التعديل العاشر للدستور أن هناك عدداً من مجالات العمل الحكومي يبقى مخصصاً للولايات. على سبيل المثال، تكون حكومات الولايات هي المسؤولة بصورة عامة عن إدارة ميزانياتها وعن سن وتنفيذ القوانين في العديد من المجالات التي تؤثر في حياة سكانها. ثانياً، تمت حماية الولايات كذلك عن طريق تمثيلها في مجلس الشيوخ الأميركي: فقد حُدد لكل ولاية عضوان في ذلك المجلس أيّاً كان عدد سكانها. ثالثاً، تم جعل الهيئة الانتخابية، وهي الهيئة التي تنتخب رئيس البلاد رسمياً، مؤلفة من مجموع ناخبي الرئيس الذين تنتخبهم الولايات بحيث يكون لكل ولاية ثلاثة مندوبين على الأقل. رابعاً، راعت عملية تعديل الدستور نفسه مصالح الولايات، لأن أي تعديل للدستور يستوجب موافقة ثلاثة أرباع كل الهيئات التشريعية في الولايات إضافة إلى موافقة ثلثي أعضاء مجلسي الكونغرس. هذه الحمايات وُضعت في صلب الدستور أيضاً لحماية الولايات الصغيرة من سيطرة الولايات الأكبر. إن مشاطرة السلطة بين الولايات والحكومة القومية هي عنصر بنيوي إضافي ضمن النظام المتقن للضوابط والتوازنات.
* الكفاح في سبيل الحقوق الفردية
تطلّعت مقدمة الدستور إلى نظام سياسي أميركي جديد يستند إلى المبادئ التالية: إقامة اتحاد أكثر كمالاً، تأمين متطلبات الدفاع المشترك، إرساء العدالة، وضمان نِعَم الحرية لأجيال الحاضر والمستقبل. وحتى قبل هذا، أشار إعلان الاستقلال إلى "حقوق لا يجوز التصرف بها" تُلازم كل الناس بصفتهم بشراً، ولا يجوز لأي حكم أن يحرمهم منها. أما السبيل الأفضل لضمان العدالة ونِعَم الحرية (آنذاك كما اليوم)، فكان موضوع خلافات حزبية حادة. عندما صيغ الدستور لأول مرة وعُرض على الولايات للمصادقة عليه، لم تتضمن مواده أي إشارة إلى الحقوق الفردية. أحد التفسيرات لهذه أن واضعي الدستور افترضوا أن الحكم القومي المُنشأ حديثاً كان محدوداً بعناية كبيرة لم تعد معها الحقوق الفردية تستلزم أي مزيد من الحماية. إضافة إلى ذلك، أظهر مؤيدون آخرون للنظام الفدرالي أن تعداد المزيد من الحقوق يؤدي إلى المزيد من المسؤولية، أي أن الحقوق التي تُعتبر جوهرية والتي لا يجري تحديدها يمكنها أن تتعرّض لتعدّي الحكومة.
رغم هزيمة مناوئي الفدرالية في معركة صياغة دستور العام 1787، فقد تمكنوا من فرض تنازلات على معارضيهم. فلخشيتهم من سلطة الحكومة القومية الجديدة، طالبوا بأن يتضمن نص الدستور مجموعة من الحمايات المحددة للحقوق الفردية. وحصلوا أيضاً على تعهدات من الزعماء المؤيدين للفدرالية في بعض المؤتمرات التي عُقدت في الولايات بدعم الموافقة على تعديلات مناسبة للدستور. وهددت بعض الولايات بعدم المصادقة على الدستور إذا لم تحصل على ضمانات بالموافقة على وثيقة الحقوق. قام مؤيدو الفدرالية بالوفاء بتعهداتهم. ففي العام 1789، تبّنى الكونغرس الأول للولايات المتحدة التعديلات العشرة الأولى للدستور. وبحلول العام 1791، كانت وثيقة الحقوق، التي تشمل التعديلات العشرة الأولى للدستور، قد حظيت بمصادقة العدد اللازم من الولايات لتصبح نافذة. إضافة إلى ذلك، أدّى التعديل التاسع للدستور، الذي يحمي بصورة صريحة الحقوق الجوهرية التي لا ينص عليها الدستور بصورة محددة، إلى تخفيف مخاوف مؤيدي النظام الفدرالي بالنسبة لتعريض حماية الحقوق التي لم تُذكر بالتحديد للخطر، في حال تم ذكر حماية أي حق معيّن دون غيره.
تحد وثيقة الحقوق من قدرة الحكومة على التعدي على حقوق فردية معيّنة، منها حرية التعبير، والصحافة، والتجمّع، والعبادة. كما تمنع الكونغرس من سن قوانين تتعلق بإنشاء أي دين رسمي، أو تفضيل أي دين على آخر. يتناول ثلثا وثيقة الحقوق تقريباً حماية حقوق المشتبه بارتكابهم جرائم، أو المتهمين بارتكاب جرائم. تشمل هذه الحقوق وجوب مراعاة الأصول القانونية المتبعة، والمحاكمات النزيهة، وعدم جواز تجريم الذات، وعدم جواز فرض عقوبات شديدة القسوة وغير معتادة، وعدم جواز محاكمة المرء أكثر من مرة بنفس الجريمة. وعندما تم تبنّيها لأول مرة، لم تكن وثيقة الحقوق تنطبق إلا على أعمال الحكومة القومية أو الفدرالية.
إن تقييد تعديات الولايات على الحريات المدنية كان موضوع تعديلات الدستور الثالث عشر (1865)، والرابع عشر (1868)، والخامس عشر (1870)، أي تلك التي تسمّى بتعديلات إعادة البناء التي صدرت بعد الحرب الأهلية، والتي كان المقصود بها إزالة مؤسسة الرق. خلال فترة المئة سنة الماضية، تم ضّم العديد من الحريات التي تنص عليها التعديلات العشرة الأولى من الدستور إلى ما ينص عليه التعديل الرابع عشر من ضمانات بالنسبة لعدم إمكان أي ولاية من منع مواطنيها من تطبيق الأصول القانونية أو من الحماية المتساوية أمام القانون. في فترة ما بعد العشرينات من القرن الماضي على الأخص، لعبت التعديلات العشرة الأولى للدستور دوراً متزايد الفعالية والأهمية في حل المسائل الصعبة المتعلقة بالسياسة العامة، من دستورية قوانين الصلاة في المدارس والفحص الإلزامي لمعرفة ما إذا كان الشخص المعني يتعاطى المخدرات، إلى دستورية قوانين منع الحمل وعقوبة الإعدام. كما اتخّذت المبادئ الأساسية التي تبناها المؤسسون، مثل مبادئ "العدالة" و"الحرية"، والمبادئ الدستورية مثل "مراعاة الأصول القانونية" و"الحماية المتساوية أمام القانون"، معان جديدةلدى الأجيال المتعاقبة. تعكس هذه التطورات، التي رافقتها في غالب الأحيان حركات احتجاجية وأعمال عصيان مدني، التغييرات في الأحاسيس البشرية والأعراف الاجتماعية خلال المئتي سنة الماضية.
يكمن التبرير الفلسفي لوثيقة الحقوق في أنها تضع بعض الحريات خارج متناول الأكثرية، وذلك على أساس ان حرمان المواطنين من حقوق أساسية جوهرية من شأنه النيل من وضعهم المدني، وفي الواقع من إنسانيتهم. إن مجموعة الحقوق التي تضمنها وثيقة الحقوق، ويضمنها الدستور، تُشكل جوهر الحكم الحر. الحقوق المدنية يمكن أن تنبع بصورة مباشرة من الحقوق الطبيعية أو بصورة غير مباشرة من ترتيبات سياسية في مجتمع مبني على رضى الناس الذي يمنحونه عبر الدساتير، والقوانين، والقانون العام. إن قصة نجاح ماديسون وزملاءه في المؤتمر الدستوري، خلال الكونغرس الأول، تعكس الطريقة التي اعتمدوها في وضع مجموعة تتعدل ذاتياً من العمليات والهيكليات التي يمكن لها ان تفرض قانونياً احترام الحقوق ووضع المعايير اللازمة من هذه الحقوق في الولايات المتحدة.
* الدستورية، الحرية، والنظام العالمي الجديد
أدت نهاية الحرب الباردة، وانهيار الاتحاد السوفياتي والدول الشيوعية التي تدور في فلكه في أوروبا الشرقية، إلى تولّد شعور بالانتصار والتفاؤل حيال الوعود التي تقدمها الأفكار الليبرالية - الديمقراطية، والحكم الدستوري. في كانون الأول/ديسمبر عام 2000، نشرت مؤسسة فريدوم هاوس (بيت الحرية)، وهي منظمة لا تتوخى الربح تُروج للديمقراطية عبر العالم، دراسة واسعة النطاق تتناول بالتفصيل وضع الحقوق السياسية والحريات المدنية في عالمنا الذي أصبح يتألف من 191 دولة في يومنا هذا. بيّنت الدراسة، وهي بعنوان "الحرية في العالم 2000 - 2001"، أن اتجاهاً بدأ قبل عشر سنوات نحو المكاسب الإيجابية التدريجية في مجال الحرية، وأنه تواصل في العام 2000. وفي المسح الذي تجريه المنظمة سنوياً تم تصنيف 86 بلداً مجموع سكانها 2500 مليون نسمة (أو نسبة 7.40 بالمئة من سكان العالم، وهي أكبر نسبة تسجل في المسح الذي تجريه المنظمة) على أنها بلدان حرة. يتمتع سكان هذه البلدان بمجموعة كبيرة من الحقوق. كما تم تصنيف 59 بلداً مجموع سكانها 1400 مليون نسمة (أي نسبة 8.23 بالمئة من سكان العالم) على أنها بلدان "حرة جزئياً." الحقوق السياسية والحريات المدنية في هذه البلدان محدودة أكثر مما هي في الفئة السابقة، وتتسم هذه البلدان في معظم الأحيان بالفساد، ووجود أحزاب حاكمة مسيطرة، وتعاني في بعض الحالات من نزاعات إثنية أو دينية. كما يُصنّف المسح 47 بلداً عدد سكانها 2200 مليون نسمة (أي ما نسبته 5.35 بالمئة من سكان العالم) على أنها "غير حرة". سكان هذه البلدان محرومون من الحقوق السياسية الأساسية والحريات المدنية.
يعزّز المسح الذي أجرته "فريدوم هاوس" الاعتقاد الشائع بأنه لم تعد للديمقراطية بدائل يمكن الاعتماد عليها؛ وإنها أصبحت الحصن الراسخ الوحيد للحداثة. لكن هناك جزءاً آخر من تراث مرحلة ما بعد الحرب الباردة يُشكّل قدراً كبيراً من التحدي والمشاكل للمفكرين السياسيين وصانعي السياسة على حد سواء. فهناك بعض الأنظمة المنتخَبة ديمقراطياً، غالباً من تلك التي أعيد انتخابها أو أعيد تأييدها بواسطة الاستفتاءات، تتجاهل بصورة روتينية الحدود الدستورية المفروضة على سلطتها وتحرم مواطنيها حقوقهم وحرياتهم الأساسية. وفي العديد من مناطق العالم، نشهد بروز ظاهرة مقلقة في الحياة الدولية هي ظاهرة الديمقراطية غير الليبرالية.
يكمن في صميم هذا الأمر الفرق بين الديمقراطية والحكم الدستوري. ولقد كان من الصعب إدراك هذه المشكلة لأنه، على مدى قرن على الأقل في الغرب، كانت الديمقراطية تَعني الديمقراطية الليبرالية. إن المزيج من الحريات التي تقوم عليها الليبرالية الدستورية هو من الناحية النظرية مستقل عن الديمقراطية. ومنذ أيام أفلاطون وأرسطو، والديمقراطية تَعني حكم الشعب. هذه النظرة إلى الديمقراطية، كعملية لاختيار الحكومات، عبّر عنها مفكرون عديدون، بدءاً من ألكسيس دو توكفيل إلى جوزف شومبيتر وروبرت دال.
وقد أوضح العالم السياسي صامويل هانتينغتون سبب ذلك، إذ قال: إن الانتخابات، الحرة والنزيهة، هي جوهر الديمقراطية، الأساس الذي لا مفر منه. ومع ذلك، قد تكون الحكومات التي تُنتجها انتخابات حكومات لا تتمتع بالكفاءة، وحكومات فاسدة، وقصيرة النظر، وغير مسؤولة، وتسيطر عليها المصالح الخاصة، وغير قادرة على تبنّي السياسات التي يتطلبها الخير العام. في حين تجعل هذه الصفات مثل تلك الحكومات غير مرغوب فيها، فإنها لا تجعلها حكومات غير ديمقراطية.
الديمقراطية فضيلة عامة، ولكنها ليست الفضيلة الوحيدة، وعلاقة الديمقراطية بالفضائل والنقائص العامة الأخرى لا يُمكن فهمها إلا إذا تمّ تمييز الديمقراطية تمييزاً واضحاً عن الصفات الأخرى للأنظمة السياسية. ولكن الانتخابات وتعبئة الشعب سياسياً لا تؤديان دائماً إلى قيام حكم دستوري ليبرالي. هناك عدم ارتياح متزايد من الانتشار السريع للانتخابات المتعددة الأحزاب في جنوب ووسط أوروبا، وآسيا، وإفريقيا، وأميركا اللاتينية، ربما بسبب ما يحصل بعد الانتخابات. فبعض زعماء البلدان المنتخَبين، ذوي الشعبية، يتجاوزون برلمانات بلدانهم ويحكمون بالمراسيم الرئاسية، متسببين بإضعاف الممارسات الدستورية الأساسية.
هناك بالطبع نطاق متنوع من الديمقراطية غير الليبرالية، يتراوح بين أنظمة تقوم فيها مخالفات بسيطة وبين أنظمة شبه استبدادية. في أميركا اللاتينية، صَمدت عدة أنظمة ديمقراطية لأكثر من عقد حتى الآن وهي تعاني أوضاعاً اقتصادية سيئة، دون ان تواجه تحديات واضحة من القوات المسلحة أو من أحزاب تعارض النظام. رغم هذا ما زال معظم هذه الأنظمة غير راسخة. فبعض البلدان صمد في وجه الضعف المؤسساتي والبنيوي للديمقراطية. لكن ترسيخ الديمقراطية لا يكتمل دون استناده إلى الليبرالية الدستورية. فبالإضافة إلى الاتفاق على قواعد التنافس على السلطة، يجب ان تكون هناك تقييدات أساسية ذاتية الدعم لممارسة السلطة. فمن بين نتائج الإفراط في التشديد على الديمقراطية الصرفة كأفضل اختبار لوجود الحرية، لم يتم بذل الجهد اللازم لوضع دساتير مبتكرة للبلدان التي تمر في مرحلة انتقالية. وهذا لا يتم بمجرد إجراء انتخابات متكررة أو وضع لائحة تعدّد الحقوق، بل بإقامة نظام لا ينتهك هذه الحقوق. الحكم الدستوري يتطلع إلى ما يتعدى إجراءات اختيار الحكومة، إنه يتطلع إلى ترتيبات يتم وضعها عن طريق التداول، وبمعزل عن الانفعالات الشعبية، تدافع عن الحرية الفردية وسيادة القانون. هذا يتطلّب التزاماً متبادلاً بين فئات النخبة، من خلال آلية تنسيق تتمثل بالدستور والمؤسسات السياسية المرتبطة به، وفي غالب الأحيان من خلال اتفاق أو تسوية بين النخبة، حيث تحافظ الحكومات على النظام عن طريق بناء ائتلافات بين أبرز الأحزاب السياسية ومجموعات أصحاب المصالح. الهدف هنا هو فرض حدود لسلطة الدولة، أياً كان الحزب أو الفئة التي تسيطر على الدولة في وقت ما. في بداية القرن العشرين، أراد وودرو ولسون جعل العالم مكاناً آمناً للديمقراطية. والتحدي في القرن القادم قد يكون جعل الديمقراطية نظاماً آمناً للعالم.
معلومات عن كاتب المقال:
غريغ راسيل هو أستاذ مشارك ومدير الدراسات العليا في دائرة العلوم السياسية في جامعة اوكلاهوما في نورمن. هو مؤلف كتاب: هانس جاي مورغنثو وأخلاقيات فن الحكم الأميركي، وكتاب: جون كوينسي أدامز والفضائل العامة للدبلوماسية، وكتاب تسوية الحقوق الداخلية والأخطاء الخارجية: قوة السلاح والأفكار أثناء الحرب. كذلك قام بنشر مقالات في مجالات الفلسفة السياسية، وتاريخ الدبلوماسية الأميركية، والعلاقات الدولية. ويقوم راسيل بإنهاء مخطوطة عن فن حكم ثيودور روزفلت.
مواضيع مماثلة
» أميركا: مساعدة الشعب السوداني
» رايس: إغلاق غوانتانامو ليس على حساب أميركا
» أميركا جديدة دينياً
» معرض ثري للتراث الإسلامي في أميركا
» معرض ثري للتراث الإسلامي في أميركا
» رايس: إغلاق غوانتانامو ليس على حساب أميركا
» أميركا جديدة دينياً
» معرض ثري للتراث الإسلامي في أميركا
» معرض ثري للتراث الإسلامي في أميركا
نجــــــــــــــــــــــــــــــــــــد :: نجـــــــــد العامـــــــــــــــــــــــــــــــة :: تقارير أمريكية
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى