الفدرالية والديمقراطية
نجــــــــــــــــــــــــــــــــــــد :: نجـــــــــد العامـــــــــــــــــــــــــــــــة :: تقارير أمريكية
صفحة 1 من اصل 1
الفدرالية والديمقراطية
الفدرالية والديمقراطية
بقلم ديفيد بودنهايمر
بقلم ديفيد بودنهايمر
"الحكومة الفدرالية وحكومات الولايات هما في الواقع وكيلتان وقيّمتان على الشعب، لكنهما مختلفتان، ولهما صلاحيات مختلفة، وتهدفان لتحقيق غايات مختلفة."
- جيمس ماديسون، مجلة الفدرالي، العدد 46
كانت الانتخابات الرئاسية العام 2000 إحدى أكثر الانتخابات تقارباً للنتائج، والأكثر مدعاة للإرباك في التاريخ الأميركي. ولم يتم التأكد، إلا بعد أكثر من شهر من اقتراع الناخبين، من أن المرشح الجمهوري جورج دبليو. بوش هو الذي فاز بتلك الانتخابات ليصبح الرئيس الثالث والأربعين للولايات المتحدة. في غضون ذلك، كان العالم يراقب فيما المعركة على أصوات فلوريدا تتنقل تكراراً بين المحاكم المحلية ومحاكم الولاية والمحاكم الفدرالية، إلى أن بتّت المحكمة العليا القضية. وما وجده الكثير من المراقبين الأجانب محيّراً هو الاختلاف الكبير في المعايير الانتخابية بين مكان وآخر، وكيف يمكن لمسؤولين محليين أن يلعبوا مثل هذا الدور الهام في انتخابات قومية.
وقد يكون المواطنون الأميركيون فوجئوا أيضاً باختلاف الإجراءات الانتخابية بين ولاية وأخرى، ولكن التداخل بين صلاحيات الحكومات المحلية، وحكومات الولايات، والحكومة الفدرالية نادراً ما بدا أمراً غير عادي. تكاد لا تمر بضعة أيام لا يتعامل فيها أناس عاديون في الولايات المتحدة مع قوانين أو إجراءات تتعلق بهذه المستويات الثلاثة من الحكم. فوضع مخططات للمناطق، وتنظيم السير، والنظافة العامة، والإدارة التربوية، وإصلاح الطرق، ومئات من الخدمات الأخرى هي أعمال يقوم بها أساساً مسؤولون محليون بموجب صلاحيات تمنحهم إياها حكومة الولاية. أما حكومات الولايات فتتولى الكثير من شؤون السياسة التربوية، والقضاء الجزائي، وتنظيم الأعمال والمهن، والصحة العامة، وعدد من المجالات الأخرى الهامة. كما أن ما تقوم به الحكومة الفدرالية، من الدفاع عن البلاد، وإدارة الشؤون الخارجية، إلى السياستين الاقتصادية والنقدية، وإصلاح نظام الرعاية الاجتماعية، فهو ما تتناوله الأخبار يومياً نظراً لتأثيره الكبير على الشعب.
مع أن القليل جداً من الناس أدرك الأمر في ذلك الوقت، فإن مسرحية الانتخابات الرئاسية الأخيرة، إضافة إلى أحداث أخرى عديدة تتعلق بالحياة اليومية، جرت على مسرح أقامه واضعو الدستور الأميركي قبل أكثر من 200 سنة. عانى الآباء المؤسسون، بوصفهم مستوطنين، في ظل سلطة فرضتها حكومة بريطانية إمبريالية وأصبحوا يعتبرون أن السلطة المركزية تُهدّد حقوقهم وحرياتهم. نتيجة لذلك، كانت المشكلة الكبرى التي واجهت المؤتمر الدستوري المنعقد في فيلادلفيا العام 1787 هي كيفية الحد من سلطة الحكومة المركزية، وفي الوقت نفسه، منحها ما يكفي من السلطات لحماية المصلحة القومية. كان توزيع السلطات على مستويين من الحكومات، حكومة قومية وحكومات للولايات، إحدى الحلول التي اقتُرحت لتلك المشكلة. يُعتبر نظام توزيع السلطات هذا، أي الفدرالية، على نطاق واسع، لا بأنه إسهاماً أميركياً فريداً في نظرية الحكم فحسب، بل أيضاً كجزء من عبقرية النظام الدستوري الأميركي نفسه.
* تعريف الفدرالية
النظام الفدرالي أو الفدرالية هو نظام توزيع الصلاحيات بين حكومتين أو أكثر تمارسان السلطة على مجموعة الناس نفسها وعلى الإقليم الجغرافي ذاته. إن أنظمة الحكم الأحادي، وهي الأكثر شيوعاً في العالم، لديها مصدر واحد للسلطة هو الحكومة المركزية أو الحكومة القومية (حكومة كل البلاد). ومع أن الديمقراطية يمكن أن تزدهر في ظل أي من نظامي الحكم، فإن الفارق بين شكلي الحكومات هو فارق حقيقي ومهم. بريطانيا العظمى، مثلاً، لديها حكم أحادي. ويتمتع برلمانها بالسلطة العليا في ما خص كل الأمور التي تحصل داخل المملكة المتحدة. وحتى إذا فوّض بعض الصلاحيات لهيئات أخرى في الشؤون المحلية، باستطاعة البرلمان أن يفرض على البلدات والمدن أو المقاطعات كل ما يراه مناسباً؛ فهو يستطيع حتى إلغاء مدن ومقاطعات، أو تغيير حدودها إذا شاء.
أما في الولايات المتحدة، فالوضع مختلف تماماً. فقوانين الحكومة القومية، ومقرها في واشنطن العاصمة، تطبّق على أي فرد يعيش داخل حدود البلاد، في حين تُطبق قوانين حكومات كل من الولايات الخمسين على الناس المقيمين في تلك الولايات فقط. بموجب الدستور الأميركي، لا يتمتع الكونغرس بسلطة إلغاء ولاية ما، ولا يجوز لأي ولاية أن تتولى أي سلطة هي من صلاحيات الحكومة الفدرالية وحدها. الدستور الأميركي هو في الواقع مصدر السلطات لكل من الحكومة القومية وحكومات الولايات. وهذه الوثيقة تعكس بدورها إرادة الشعب الأميركي، التي تشكّل السلطة العليا في أي نظام ديمقراطي.
في الدولة الفدرالية، تتمتع الحكومة المركزية بصلاحيات محددة، وتكون لها سيطرة تامة على الشؤون الخارجية. أما ممارسة السلطة في الشؤون الداخلية، فأمر أكثر تعقيداً. بموجب الدستور، تتمتع حكومة الولايات المتحدة بالصلاحية الحصرية لتنظيم التجارة بين الولايات والتجارة الخارجية، ولسك النقود، ومنح الجنسية للمهاجرين، وتشكيل قوات برية أو بحرية، وأمور أخرى. والولايات المتحدة تضمن لكل من الولايات أن تكون لديها حكومة ذات نظام جمهوري، ما يضمن ألا تعمد أي ولاية إلى إقامة حكم ملكي، مثلاً. هذه المجالات هي مجالات من الواضح أن مصلحة البلاد ككل تتقدم فيها على مصالح كل من الولايات منفردة، ولذلك كان من الصحيح الاحتفاظ بها للحكومة القومية. وللحكومة القومية كذلك سلطة قضائية لحل الخلافات بين ولايتين أو أكثر، وبين مواطني ولايات مختلفة.
إنما في مجالات أخرى من السياسة الداخلية، فقد تكون للحكومة القومية المركزية وحكومات الولايات مصالح أو حاجات متوازية أو متداخلة. هنا، يمكن ممارسة السلطة في الوقت نفسه من قبل كل من حكومة الولاية والحكومة المركزية؛ وأهم هذه السلطات المتزامنة سلطة فرض الضرائب. أما في المجالات التي لا يذكر الدستور أنها من صلاحية الحكومة المركزية، فيمكن للولايات أن تتولى السلطة فيها شرط أن لا يتناقض عملها مع الصلاحيات التي يمكن للحكومة المركزية أن تمارسها قانوناً. في المواضيع الكبرى والهامة التي تطال المواطنين في حياتهم اليومية، مثل التعليم، والجريمة والعقاب، والصحة والسلامة، فلا يحدد الدستور مسؤولية مباشرة (لأي من الحكومتين) عنها. واستناداً إلى المبادئ الجمهورية التي كان يسترشد بها جيل المؤسسين، خاصة نظريات جون لوك، إحتفظ الشعب بهذه الصلاحيات، التي فوّض للولايات القيام بها من خلال الدساتير المختلفة لتلك الولايات.
كان واضعو الدستور مدركين لاحتمال وقوع نزاع بين مستويي الحكم، أو بين عناصر كل من المستويين، خاصة في مجال استخدام الصلاحيات المتزامنة، وتبنّوا بعض استراتيجيات لتحاشي ذلك. أولاً، أُعطيَ دستور الولايات المتحدة (الفدرالي) سيادة أعلى من دساتير الولايات، وهذه الحالة أعطت المحكمة العليا سلطة فرض تطبيقه. فقد تضمن الدستور فقرة أعلنت أن إجراءات الحكومة القومية تكون لها السيادة عندما يتضارب استخدامها الدستوري لسلطتها مع الإجراءات المشروعة للولايات. ومنع الدستور بصورة واضحة الولايات من ممارسة صلاحيات مُعيّنة أعطيت للحكومة المركزية. وكجزء من الحملة لتأمين المصادقة على الدستور، وافق واضعوه على دعم وثيقة الحقوق، التي تضم التعديلات العشرة الأولى للدستور، وتهدف إلى منع الحكومة القومية المركزية من التدخل في الحريات الفردية. وضع الدستور القواعد الأساسية للعلاقات بين الولايات بتعداده الموجبات المتبادلة المفروضة على الولايات تجاه بعضها البعض، وجعل كل ولاية جديدة تنضم إلى الاتحاد متساوية مع الولايات الأصلية. وأخيراً، تم تمثيل الولايات في الحكومة القومية بعدد متساو من الممثلين في المجلس الأعلى للكونغرس، أي مجلس الشيوخ. لقد سعى الآباء المؤسسون، بكل هذه الطرق، إلى الحد من النزاع بين مختلف الحكومات في الولايات المتحدة.
الاختراع الأميركي للفدرالية استند إلى مفهوم جديد للسيادة، أي السلطة المطلقة للحكم. في النظرية السياسية الإنجليزية والأوروبية، كانت السيادة أحادية وغير قابلة للتجزئة. ولكن طوال الأزمة الإمبريالية التي سبقت انفصال أميركا عن بريطانيا العام 1776، كان المستوطنون يجادلون بأنه في حين كان البرلمان الإنجليزي يتحكّم بكل الشؤون التي تتعلّق بالإمبراطورية ككل، كانت الهيئات التشريعية في المستوطنات في الواقع تسّن قوانين خاصة بتلك المستوطنات. ومع هذا، فإن الحكومات الأميركية المبكرة في حقبة الحرب الثورية كانت تعمل بموجب النظرية القديمة القائلة بعدم جواز تجزئة السيادة. بموجب مواد النظام الكونفدرالي (1783)، أي أول دستور للبلاد، كانت لكل ولاية أو مستوطنة سيادتها؛ وكانت الولايات لتتعاون في "رابطة صداقة" لمعالجة القضايا التي تهم البلاد ككل. ولكن تبيّن أن تجربة الشكل الكونفدرالي للحكم لم تكن مُرضية، كما أن البعض اعتبرها خطرة. ما حصل لم يكن أن عمدت ولايات إلى حرمان بعض مواطنيها من حرياتهم وحسب، بل قامت أيضاً بتغليب مصالحها الخاصة على مصالح الدولة ككل. أدى الاستياء الواسع النطاق من مواد النظام الكونفدرالي في العام 1787 إلى عقد مؤتمر لمندوبي الولايات من أجل صوغ دستور جديد.
الوثيقة التي صدرت عن ذلك المؤتمر تبدأ بالكلمات الشهيرة التالية: "نحن شعب الولايات المتحدة.."، مدللة بذلك على مصدر السيادة في الدولة الجديدة. الدستور، الذي أوجده الشعب، حجب السيادة عن كل من الحكومة القومية وحكومات الولايات. وما كان يبدو في السابق أمراً غير منطقي، أي حكومة ضمن حكومة، أصبح الآن ممكناً لأن مصدر سلطة كل من الحكومة القومية وحكومات الولايات قد منحت من قبل الشعب صاحب السيادة. إن منح الشعب السلطة هذه تم التعبير عنه بواسطة دستور مكتوب حدد أدواراً مختلفة لمستويات مستقلة من الحكم. يمكن لسلطة الولايات وسلطة الحكومة القومية أن تمارسا السلطة بصورة متزامنة على المنطقة الجغرافية ذاتها وعلى مجموعة السكان نفسها، لأن كلا من السلطتين تركّز على أمور تختلف عما تُركز عليه السلطة الأخرى، فالولايات تُركز على القضايا المحلية، والحكومة القومية على أمور أكثر شمولاً. أتاحت التجربة الأميركية للحكم لكل من حكومات الولايات والحكومة القومية أن تتعايش كوحدات منفصلة ومستقلة، لكل منها مجال صلاحياتها، لأن الاثنتين موجودتان لخدمة الشعب.
رد: الفدرالية والديمقراطية
دراسة في التطور
كيف نجح النظام الفدرالي في الولايات المتحدة؟ ليس هناك من جواب بسيط عن هذا السؤال. فالفدرالية هي في الواقع إطار عمل دينامي للحكم، وهذه صفة تلائم تماماً الطبيعة المتغيرة للمجتمع الأميركي نفسه. منذ العمل به قبل 200 عام، تغيّر فصل السلطات في ظل النظام الفدرالي الأميركي عدة مرّات من ناحيتي القانون والممارسة. الدستور الأميركي وثيقة مرنة، قُصد به أن يتيح للدولة أن تستجيب لأوضاع متغيرة. في بعض الأوقات، أعطت التعديلات الدستورية الحكومة المركزية وحكومات الولايات أدواراً تختلف عن تلك التي كانت مقصودة لها أصلاً؛ وفي أحيان أخرى، قدّمت المحاكم تفسيرات مختلفة لتلك الأدوار. إن التوازن الصحيح بين سلطات الحكومة القومية وحكومات الولايات هو على الدوام موضع نقاش في الحياة السياسية الأميركية. وهذه قضية لا يمكن أن يحلها "رأي أو جيل واحد"، كما لاحظ الرئيس وودرو ويلسون (1913-1920). وأضاف إن التغيّرات الاجتماعية والاقتصادية، والتحولات في القيم السياسية، ودور الدولة الأميركية في العالم أمور تطلبت جميعها من كل جيل جديد أن يعامل الفدرالية وكأنها "مسألة جديدة". حتى القراءة البسيطة للدستور تُعطي انطباعاً بأن الحكومة المركزية ليست مسؤولة إلا عن عدد قليل من المهام التي تطال إدارة الشؤون اليومية. كان هذا الأمر صحيحاً بالطبع في القرن الأول من قيام الدولة. فقد كانت الولايات تتخذ كل القرارات الحكومية التي تؤثر في حياة مواطنيها. حددت الجرائم والعقوبات، وسنّت قوانين التعاقد، ونظّمت شؤون الصحة العامة والسلامة العامة، وأرست المعايير القانونية للتعليم، والرعاية الاجتماعية، والأخلاقيات.
رغم أهمية الولايات في الحياة اليومية، كانت أشد مسائل السياسة العامة إلحاحاً قبل الحرب الأهلية الأميركية (1861-1865) تتناول النقاش حول نطاق صلاحيات السلطة القومية، حيث كان يرى معظم الناس وجوب بقاء تلك الصلاحيات محدودة. ولكن عدداً من الضغوط بقي يدفع بمبدأ الفدرالية إلى الموقع المركزي من النقاش السياسي. لقد كان للتراث الذي خلّفته الثورة، بمخاوفها من السلطة المركزية، تأثير قوي، وكذلك كان الأمر بالنسبة إلى الغموض الذي بقي من المؤتمر الدستوري والمناقشات التي دارت في صدد المصادقة على الدستور. لقد اكتنفت العمومية لغة الدستور، ولم تتناول بصورة صريحة ما إذا كانت الولايات ستحتفظ بأي بقية من سيادة بالنسبة للسلطات المعطاة للحكومة الوطنية. وما زاد في تعقيد المشكلة هو أن الولايات، من الناحية العملية، كانت أكثر كفاءة في أداء المهام الحكومية بصورة مرضية في أول الأمر مقارنة بما أصبحت عليه في الحقب التالية عندما أخذت المشاكل تستلزم بصورة متزايدة حلولاً تشارك فيها عدة ولايات.
حلّت الحرب الأهلية، التي وقعت بسبب قضية الرق، الخلاف حول طبيعة الاتحاد وسيادة موقع الحكومة القومية فيه. ولكنها لم تحل كل المسائل المتعلقة بالتوزيع الصحيح للمسؤوليات بين الحكومة المركزية وحكومات الولايات، مع أن التعديل الرابع عشر للدستور، الذي تمت المصادقة عليه العام 1868، تضمّن نصاً سمح بتوسيع نطاق صلاحيات السلطة القومية في صورة مشروعة. لكن مضمون النقاش كان قد تغيّر. فخلال النصف الأخير من القرن التاسع عشر، أصبحت الولايات المتحدة عملاقاً صناعياً، وهو تطور رافقه نمو مواز في السوق الداخلية الضخمة، وقيام مدن كبرى، وتركيز كبير للثروات، ومشاكل اجتماعية خطيرة. وأدى نشوء الشركات الاحتكارية المنتجة للسلع والخدمات إلى بروز إمكانية ظهور سلطة اقتصادية خارجة عن السيطرة، وهي ما كان معظم الأميركيين يعتبره خطراً موازياً لخطر سلطة حكومية خارجة عن السيطرة.
ما من ولاية أو مجموعة ولايات كان في وسعها أن تُرسي الأوضاع اللازمة لتشجيع، وفي الوقت نفسه ضبط، هذا النمو للتجارة ونتائجه. ولذلك بدأت الحكومة المركزية، التي أصبحت تغلب على تسميتها في هذا الوقت تسمية الحكومة الفدرالية، تتولّى هذه المسؤولية بموجب فقرة "تنظيم التجارة بين الولايات" في بادئ الأمر. فمن الصلاحيات التي ينيطها الدستور بالكونغرس صلاحية "تنظيم التجارة مع الدول الأجنبية وبين الولايات..". وبحلول العام 1887، كانت تشريعات قومية قد ظهرت لفرض أنظمة خاصة بالاحتكارات بموجب صلاحية تنظيم التجارة بين الولايات. وفي غضون عقدين من ذلك، كان الكونغرس قد أصدر عدداً من القوانين تنظم كل شيء، من اليانصيب إلى تجارة المشروبات الكحولية وصناعة المواد الغذائية، والأدوية في مختلف أنحاء البلاد.
ومع أن القصد من كثير من تلك التشريعات كان منع الولايات من التدخل في نمو الصناعة، فإن نتيجتها كانت توسيع مدى صلاحيات السلطة القومية أو الفدرالية إلى مجال حماية صحة وخير الناس في حقبة من التصنيع السريع، وهو مجال كان يعتبر قبلاً من مسؤولية الولايات. كان التقدميون في أول القرن، بقيادة الرئيس ثيودور روزفلت (1901-1909)، لا يهابون هذا التدخل، مجادلين بأن الولايات بحاجة إلى الحكومة الفدرالية لمساعدتها في تحقيق أهدافها. ومع أن المحكمة العليا، التي أصبحت في ذلك الوقت معترفاً بها حكماً نهائياً في قضايا تفسير الدستور، قبلت هذا الهدف وشجعته، فإنها بقيت تحاول إبقاء السلطة الفدرالية مضبوطة. إلا أن الاتجاه العام كان واضحاً، وهو أن السلطة الفدرالية كانت تنمو مع تزايد حاجات البلاد، وكانت سلطات الولايات تتقلص تبعاً لذلك.
في ثلاثينات القرن الماضي، زادت البرامج الاقتصادية للرئيس فرانكلين روزفلت التي تضمّنها "العقد الجديد" من التحدي لهذا التوازن، المحافظ نسبياً، بين مصالح الحكومة الفدرالية ومصالح حكومات الولايات، إذ ادعت الحكومة الفدرالية لنفسها صلاحية واسعة النطاق تشمل البلاد ككل من أجل معالجة الأزمة الاقتصادية التي تسبب بها الكساد الكبير. مهدّت التدابير التي اتخذها الكونغرس الطريق أمام قيام إدارة قومية لبرامج الرعاية الاجتماعية (وضع نظام الضمان الاجتماعي)، والزراعة، والحد الأدنى للأجور، والعلاقات العمالية، وقوانين أخرى وضعت أنظمة فدرالية لمجالات حيوية مثل النقل، والاتصالات، والأعمال المصرفية والمالية. وعند إضافة هذه الأنظمة إلى برامج الإغاثة وعدد من التجارب الاجتماعية الأخرى، فإن برنامج العقد الجديد أدى في الواقع إلى نشوء إدارة وطنية جديدة كما أدّت الأوضاع الطارئة التي تسببت بها الحرب العالمية الثانية إلى تعزيز هذه الإدارة. كانت تلك ثورة دستورية من الطراز الأول، فقد أصبحت الحكومة الفدارلية تمارس الآن صلاحيات، في مجال قانون العمل وتنظيم العمل المصرفي مثلاً، كانت تعود في السابق لحكومات الولايات بصورة حصرية تقريباً.
واصل دور الحكومة المركزية داخل النظام الفدرالي توسعه خلال النصف الأخير من القرن العشرين. فقد عكست المحكمة العليا التفسير السائد للتعديل الرابع عشر للدستور الذي كان يعرّف مدى السلطة القومية بصورة ضيقة، وزاد من نطاق إشراف الحكومة الفدرالية على مجالات الجريمة والعقاب، والرعاية الاجتماعية، والعلاقات العرقية، والحماية المتساوية للقوانين. بحلول نهاية القرن، نادراً ما بقي هناك مجال لا تطاله السلطة الوطنية. ولعل أوضح تأثير لذلك هو الكلام الذي اختاره معظم الناس جواباً عن سؤال طلب منهم تحديد هويتهم. فطيلة معظم تاريخ البلاد، كان عدد كبير من الناس ينسبون انتماءهم الأساسي للولاية؛ ولكن بحلول نهاية القرن العشرين أصبحت الهوية القومية موضع قدر أكبر من الاعتزاز من ذي قبل.
لم تنه الثورة الفدرالية النقاش حول التوزيع الصحيح للسلطات بين حكومات الولايات والحكومة القومية. ولا يزال اختلاف الآراء حول الدور الصحيح للحكومة القومية وحكومات الولايات ضمن النظام الفدرالي جزءاً هاماً من السياسة الأميركية. ما مِن قضية داخلية تقريباً في منأى عن النزاع حول أي مستوى من الحكم لديه صلاحية رسم أو تطبيق السياسات المتعلقة بها. ولم يعد من السهل التمييز بين مهام حكومات الولايات ومهام الحكومة القومية، لأن النظام الفدرالي الحالي يميل إلى المزج بين المسؤوليات والتقليل من التمييز بينها في معالجة قضايا اجتماعية واقتصادية معقّدة.
كيف نجح النظام الفدرالي في الولايات المتحدة؟ ليس هناك من جواب بسيط عن هذا السؤال. فالفدرالية هي في الواقع إطار عمل دينامي للحكم، وهذه صفة تلائم تماماً الطبيعة المتغيرة للمجتمع الأميركي نفسه. منذ العمل به قبل 200 عام، تغيّر فصل السلطات في ظل النظام الفدرالي الأميركي عدة مرّات من ناحيتي القانون والممارسة. الدستور الأميركي وثيقة مرنة، قُصد به أن يتيح للدولة أن تستجيب لأوضاع متغيرة. في بعض الأوقات، أعطت التعديلات الدستورية الحكومة المركزية وحكومات الولايات أدواراً تختلف عن تلك التي كانت مقصودة لها أصلاً؛ وفي أحيان أخرى، قدّمت المحاكم تفسيرات مختلفة لتلك الأدوار. إن التوازن الصحيح بين سلطات الحكومة القومية وحكومات الولايات هو على الدوام موضع نقاش في الحياة السياسية الأميركية. وهذه قضية لا يمكن أن يحلها "رأي أو جيل واحد"، كما لاحظ الرئيس وودرو ويلسون (1913-1920). وأضاف إن التغيّرات الاجتماعية والاقتصادية، والتحولات في القيم السياسية، ودور الدولة الأميركية في العالم أمور تطلبت جميعها من كل جيل جديد أن يعامل الفدرالية وكأنها "مسألة جديدة". حتى القراءة البسيطة للدستور تُعطي انطباعاً بأن الحكومة المركزية ليست مسؤولة إلا عن عدد قليل من المهام التي تطال إدارة الشؤون اليومية. كان هذا الأمر صحيحاً بالطبع في القرن الأول من قيام الدولة. فقد كانت الولايات تتخذ كل القرارات الحكومية التي تؤثر في حياة مواطنيها. حددت الجرائم والعقوبات، وسنّت قوانين التعاقد، ونظّمت شؤون الصحة العامة والسلامة العامة، وأرست المعايير القانونية للتعليم، والرعاية الاجتماعية، والأخلاقيات.
رغم أهمية الولايات في الحياة اليومية، كانت أشد مسائل السياسة العامة إلحاحاً قبل الحرب الأهلية الأميركية (1861-1865) تتناول النقاش حول نطاق صلاحيات السلطة القومية، حيث كان يرى معظم الناس وجوب بقاء تلك الصلاحيات محدودة. ولكن عدداً من الضغوط بقي يدفع بمبدأ الفدرالية إلى الموقع المركزي من النقاش السياسي. لقد كان للتراث الذي خلّفته الثورة، بمخاوفها من السلطة المركزية، تأثير قوي، وكذلك كان الأمر بالنسبة إلى الغموض الذي بقي من المؤتمر الدستوري والمناقشات التي دارت في صدد المصادقة على الدستور. لقد اكتنفت العمومية لغة الدستور، ولم تتناول بصورة صريحة ما إذا كانت الولايات ستحتفظ بأي بقية من سيادة بالنسبة للسلطات المعطاة للحكومة الوطنية. وما زاد في تعقيد المشكلة هو أن الولايات، من الناحية العملية، كانت أكثر كفاءة في أداء المهام الحكومية بصورة مرضية في أول الأمر مقارنة بما أصبحت عليه في الحقب التالية عندما أخذت المشاكل تستلزم بصورة متزايدة حلولاً تشارك فيها عدة ولايات.
حلّت الحرب الأهلية، التي وقعت بسبب قضية الرق، الخلاف حول طبيعة الاتحاد وسيادة موقع الحكومة القومية فيه. ولكنها لم تحل كل المسائل المتعلقة بالتوزيع الصحيح للمسؤوليات بين الحكومة المركزية وحكومات الولايات، مع أن التعديل الرابع عشر للدستور، الذي تمت المصادقة عليه العام 1868، تضمّن نصاً سمح بتوسيع نطاق صلاحيات السلطة القومية في صورة مشروعة. لكن مضمون النقاش كان قد تغيّر. فخلال النصف الأخير من القرن التاسع عشر، أصبحت الولايات المتحدة عملاقاً صناعياً، وهو تطور رافقه نمو مواز في السوق الداخلية الضخمة، وقيام مدن كبرى، وتركيز كبير للثروات، ومشاكل اجتماعية خطيرة. وأدى نشوء الشركات الاحتكارية المنتجة للسلع والخدمات إلى بروز إمكانية ظهور سلطة اقتصادية خارجة عن السيطرة، وهي ما كان معظم الأميركيين يعتبره خطراً موازياً لخطر سلطة حكومية خارجة عن السيطرة.
ما من ولاية أو مجموعة ولايات كان في وسعها أن تُرسي الأوضاع اللازمة لتشجيع، وفي الوقت نفسه ضبط، هذا النمو للتجارة ونتائجه. ولذلك بدأت الحكومة المركزية، التي أصبحت تغلب على تسميتها في هذا الوقت تسمية الحكومة الفدرالية، تتولّى هذه المسؤولية بموجب فقرة "تنظيم التجارة بين الولايات" في بادئ الأمر. فمن الصلاحيات التي ينيطها الدستور بالكونغرس صلاحية "تنظيم التجارة مع الدول الأجنبية وبين الولايات..". وبحلول العام 1887، كانت تشريعات قومية قد ظهرت لفرض أنظمة خاصة بالاحتكارات بموجب صلاحية تنظيم التجارة بين الولايات. وفي غضون عقدين من ذلك، كان الكونغرس قد أصدر عدداً من القوانين تنظم كل شيء، من اليانصيب إلى تجارة المشروبات الكحولية وصناعة المواد الغذائية، والأدوية في مختلف أنحاء البلاد.
ومع أن القصد من كثير من تلك التشريعات كان منع الولايات من التدخل في نمو الصناعة، فإن نتيجتها كانت توسيع مدى صلاحيات السلطة القومية أو الفدرالية إلى مجال حماية صحة وخير الناس في حقبة من التصنيع السريع، وهو مجال كان يعتبر قبلاً من مسؤولية الولايات. كان التقدميون في أول القرن، بقيادة الرئيس ثيودور روزفلت (1901-1909)، لا يهابون هذا التدخل، مجادلين بأن الولايات بحاجة إلى الحكومة الفدرالية لمساعدتها في تحقيق أهدافها. ومع أن المحكمة العليا، التي أصبحت في ذلك الوقت معترفاً بها حكماً نهائياً في قضايا تفسير الدستور، قبلت هذا الهدف وشجعته، فإنها بقيت تحاول إبقاء السلطة الفدرالية مضبوطة. إلا أن الاتجاه العام كان واضحاً، وهو أن السلطة الفدرالية كانت تنمو مع تزايد حاجات البلاد، وكانت سلطات الولايات تتقلص تبعاً لذلك.
في ثلاثينات القرن الماضي، زادت البرامج الاقتصادية للرئيس فرانكلين روزفلت التي تضمّنها "العقد الجديد" من التحدي لهذا التوازن، المحافظ نسبياً، بين مصالح الحكومة الفدرالية ومصالح حكومات الولايات، إذ ادعت الحكومة الفدرالية لنفسها صلاحية واسعة النطاق تشمل البلاد ككل من أجل معالجة الأزمة الاقتصادية التي تسبب بها الكساد الكبير. مهدّت التدابير التي اتخذها الكونغرس الطريق أمام قيام إدارة قومية لبرامج الرعاية الاجتماعية (وضع نظام الضمان الاجتماعي)، والزراعة، والحد الأدنى للأجور، والعلاقات العمالية، وقوانين أخرى وضعت أنظمة فدرالية لمجالات حيوية مثل النقل، والاتصالات، والأعمال المصرفية والمالية. وعند إضافة هذه الأنظمة إلى برامج الإغاثة وعدد من التجارب الاجتماعية الأخرى، فإن برنامج العقد الجديد أدى في الواقع إلى نشوء إدارة وطنية جديدة كما أدّت الأوضاع الطارئة التي تسببت بها الحرب العالمية الثانية إلى تعزيز هذه الإدارة. كانت تلك ثورة دستورية من الطراز الأول، فقد أصبحت الحكومة الفدارلية تمارس الآن صلاحيات، في مجال قانون العمل وتنظيم العمل المصرفي مثلاً، كانت تعود في السابق لحكومات الولايات بصورة حصرية تقريباً.
واصل دور الحكومة المركزية داخل النظام الفدرالي توسعه خلال النصف الأخير من القرن العشرين. فقد عكست المحكمة العليا التفسير السائد للتعديل الرابع عشر للدستور الذي كان يعرّف مدى السلطة القومية بصورة ضيقة، وزاد من نطاق إشراف الحكومة الفدرالية على مجالات الجريمة والعقاب، والرعاية الاجتماعية، والعلاقات العرقية، والحماية المتساوية للقوانين. بحلول نهاية القرن، نادراً ما بقي هناك مجال لا تطاله السلطة الوطنية. ولعل أوضح تأثير لذلك هو الكلام الذي اختاره معظم الناس جواباً عن سؤال طلب منهم تحديد هويتهم. فطيلة معظم تاريخ البلاد، كان عدد كبير من الناس ينسبون انتماءهم الأساسي للولاية؛ ولكن بحلول نهاية القرن العشرين أصبحت الهوية القومية موضع قدر أكبر من الاعتزاز من ذي قبل.
لم تنه الثورة الفدرالية النقاش حول التوزيع الصحيح للسلطات بين حكومات الولايات والحكومة القومية. ولا يزال اختلاف الآراء حول الدور الصحيح للحكومة القومية وحكومات الولايات ضمن النظام الفدرالي جزءاً هاماً من السياسة الأميركية. ما مِن قضية داخلية تقريباً في منأى عن النزاع حول أي مستوى من الحكم لديه صلاحية رسم أو تطبيق السياسات المتعلقة بها. ولم يعد من السهل التمييز بين مهام حكومات الولايات ومهام الحكومة القومية، لأن النظام الفدرالي الحالي يميل إلى المزج بين المسؤوليات والتقليل من التمييز بينها في معالجة قضايا اجتماعية واقتصادية معقّدة.
رد: الفدرالية والديمقراطية
فضائل توزيع الصلاحيات
تجري المشاركة في الصلاحيات ورسم السياسات اليوم ضمن ما يصفه علماء مختصون بأنه نظام فدرالي تعاوني. إن هذه السمة في الحياة الأميركية أصبحت راسخة لدرجة أنها تستمر حتى عند اختلاف فرعي الحكومة، كما حصل في الستينات من القرن الماضي عندما تعاونت الولايات الجنوبية (مع الحكومة المركزية) في بناء طريق عابرة للولايات في نفس الوقت التي كانت تقاوم الاندماج العرقي الذي فرضته الحكومة الفدرالية. إن ما يجعل النظام الفدرالي التعاوني ممكناً هو عدد من الإجراءات العملانية، بما في ذلك المشاركة في النفقات، والتوجيهات الفدرالية، والاشتراك في الإدارة. فالكونغرس يوافق على دفع جزء من نفقات برامج تخدم المصلحة القومية مع أنها تفيد في الأساس سكان ولاية واحدة أو منطقة واحدة. من بين هذه البرامج الطرق، ومنشآت معالجة الصرف الصحي، والمطارات، وتحسينات أخرى للبنى التحتية المحلية أو التي تعود لولايات معيّنة. تُمنح الهبات الفدرالية مترافقة مع مجموعة من التوجيهات التي ينبغي على الولايات تبنّيها وتطبيقها كي تحصل على الأموال. على سبيل المثال، عمد الكونغرس في الآونة الأخيرة، لقلقه من قيادة السائقين سياراتهم وهم سكارى، إلى ربط حصول الولايات على الأموال التي تخصصها الحكومة الفدرالية للطرق بشرط قيام الولايات المعنية بفرض تخفيض الحد المقبول لمعدل الكحول في الدم ضمن قوانين السير لديها. أخيراً، يقوم المسؤولون في الولايات والمسؤولون المحليون بتطبيق سياسات فدرالية، إنما بموجب برامج من تصميمهم ومن خلال موظفي إداراتهم. إن برنامج إعادة التدريب على الوظائف هو أحد هذه البرامج، حيث تقوم كل ولاية بتطوير وإدارة برنامج تموّله الحكومة الفدرالية لتلبية الحاجات المعيّنة لمواطنيها. ما هي عِبَر التجربة الأميركية في تطبيق الفدرالية للحكومات الديمقراطية في أماكن أخرى من العالم؟ الحكومات الفدرالية ليست شائعة، فمعظم الدول يتبنى حكماً أحادياً تتركز فيه السلطة، كما أن النظام الفدرالي ليس ضرورياً للديمقراطية، كما تثبت تجربة الحكومات البرلمانية. ولكن مبادئ الفدرالية هامة للحكم الديمقراطي في أي مكان. الأهم بين هذه المبادئ هو توزيع الصلاحيات، وفصل السلطات، ولامركزية صنع السياسات، والعمل السياسي.
آمن الأميركيون منذ أمد بعيد بأن السلطة المركزية تهدد الحرية، وأكثر ما يخشونه تقليدياً هو ممارسة السلطة من قبل حكومة قومية يبعد مقرها عنهم. إن إناطة السلطة بمستويين من الحكم، وتوزيع هذه السلطة بشكل يجعل من كل مستوى سيداً في مجاله المستقل، كانا أحد الحلول لمشكلة كيفية منح الحكومة الصلاحيات الضرورية دون أن يؤدي ذلك إلى قيام سلطة مركزة تنال من الحريات. إن حكومات الولايات، وهي مستوى الحكم الأقرب إلى الناس، تضبط في الواقع سلطة الحكومة القومية. هذا الابتكار بدا منطقياً لجيل الآباء المؤسسين؛ وفي الواقع تستلزم نظرية التمثيل الأميركية وجود صلة جغرافية بين الممثل والذين يمثلهم. لا يزال الحكم المحلي يستهوي العقول الحديثة لأنه، كما قال أحد العلماء، يرضي "التفضيل الطبيعي لما هو قريب ومعروف والريبة مما هو بعيد ونظري". إن "حقوق الولايات"، كما تسمى الصلاحيات المعطاة للولايات في كثير من الأحيان، تستند إلى افتراض أن الإقليمية أو الخاصية المحلية هي أمر هام وأن الناس يثقون بحكومة يمكنهم التحكم بها. حكومات الولايات تفي بهذا الغرض أكثر مما تفعل الحكومة القومية. هذا الاعتقاد يفسّر لماذا ما زال الأميركيون يريدون سيطرة محلية على المؤسسات التي تؤثر في حياتهم اليومية، مثل أجهزة الشرطة، والمدارس والمستشفيات، كما يصرّون أيضاً على أن تصان حقوق المواطنين على الصعيد القومي وعلى ألاّ تختلف بين ولاية وأخرى. من الناحيتين النظرية والعملية، يلبي النظام الفدرالي كل من الاحتياجات المحلية والقومية ضمن إطار صلاحيات محدودة.
إن قدرة الفدرالية على استيعاب القضايا المحلية تسهم أيضاً في بناء الديمقراطية عن طريق إضفاء طابع اللامركزية على السياسات والعمل السياسي. الولايات المتحدة دولة كبيرة ومتنوعة جغرافياً. وهي أيضاً أمة مهاجرين، تحمل فيها كل مجموعة إثنية أو قومية أو دينية معها قيماً ثقافية وأخلاقية مختلفة إلى القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. من شأن حكم مثل هذه الدولة ديمقراطياً أن يكون أصعب بكثير لو لم يكن بالإمكان التعبير عن هذه الاختلافات واستيعابها بسهولة. فبإمكان الولايات أن تعتمد سياسات متباينة جداً في صدد المشكلة نفسها، ما يوفر السبيل للمواطنين لأن يعيشوا في الولاية التي تلائم سياستها قيمهم الأخلاقية أو الثقافية. تصوروا قضية القمار مثلاً. بعض الولايات يسمح به والبعض الآخر لا يسمح. سياسة كل ولاية تلائم حاجاتها، وتجاربها، وقيم أكثرية سكانها، كما تعبّر عنها قوانينها. في هذا المثل، يتبين أن تباين ممارسات الولايات مفيد لأن ليس هناك من إجماع قومي حول تأييد سياسة موحدة في هذا الأمر.
إن تنوع النهوج في ما خص السياسة العامة ليس كله فضيلة. ويجب ألا ينتقص هذا التنوع مطلقاُ من حقوق وامتيازات المواطنين. فحق المحاكمة من هيئة محلفين، مثلاً، يجب ألا يعتمد على أي وضع جغرافي. من الناحية العملية، يمكن للتنوّع أن يؤدي أيضاً إلى معاملة غير متساوية عندما لا تتمكن ولاية فقيرة مثلاً من تمويل برنامج أساسي للتعليم بمثل ما تستطيعه ولاية غنية. ولكن باستثناء الحقوق الأساسية، تعتبر القدرة على تجربة حلول مختلفة من الصفات المميزة للنظام الفدرالي.
كثيراً ما توصف الولايات بأنها مختبرات الديمقراطية، وذلك لسبب وجيه. فالبرامج والسياسات المبتكرة، بدءاً من الرعاية الاجتماعية والإصلاح التعليمي إلى أنظمة الصحة والسلامة، كثيراً ما وضعتها حكومات الولايات في أول الأمر. فقبل وقت طويل من قيام الحكومة القومية بذلك، ألغى العديد من الولايات الرق، ومَنَحت النساء والسود والبالغين الثامنة عشرة حق الانتخاب، وجعلت انتخاب أعضاء مجلس الشيوخ يتم من قبل الشعب مباشرة، إضافة الى إصلاحات أخرى. هذه الإجراءات التي قامت بها الولايات وسّعت نطاق ما تُبشّر به الديمقراطية من وعود في وقت لم تحظَ فيه أي من هذه الإصلاحات بإجماع قومي. في هذا المعنى، تقوم الولايات بمهمة الإصلاح السياسي كما تعمل كوسيط لاختبار الأفكار الجديدة والمساعدة في التوصل إلى حلول وسط مقبولة لخلافات بين الأكثريات في الولايات وفي البلاد ككل.
يوسّع النظام الفدرالي أيضاً مساهمة الناس في العمل السياسي والحكومي. فبقدر ما تزداد مستويات الحكم، بقدر ما تزداد فرص الناس للاقتراع في الانتخابات وتولّي المناصب العامة. يَنتخب مواطنو الولايات آلاف المسؤولين في حكومات الولايات والحكومات المحلية، بينما ينتخب كل المواطنين مسؤولين اثنين فقط هما الرئيس ونائب الرئيس. (قانونياً لا يَنتخب إيّاً من الرئيس أو نائب الرئيس كل الناخبين، بل تنتخبهما الهيئة الانتخابية التي يختارها المقترعون في كل ولاية، بالرغم من أن الانتخابات تكون بالفعل انتخابات قومية عامة). إن الكثير من المناصب المحلية تكون مجالات لتدريب من سوف يشغلون مناصب قيادية قومية في المستقبل. على سبيل المثال، بين آخر خمسة رؤساء للبلاد واحد فقط، هو جورج بوش الأب (1989-1993)، لم يكسب خبرة في مناصب حكومية لإحدى الولايات. فالرؤساء كارتر، وريغان، وكلينتون، وجورج دبليو بوش، شغلوا كلهم مناصب مُنتخبة في الولايات. ومع أن معظم شاغلي المناصب الرسمية في حكومات الولايات والحكومات المحلية لا ينتقلون إلى مناصب في الحكومة القومية، لكنهم جميعاً يتعلمون دروساً قيّمة حول دور الحكومة في المجتمع الديمقراطي، وهي دروس تعزز في نهاية المطاف العلاقة بين الحكومة والمواطنين. يستفيد المجتمع من ذلك أيضاً لأن مجموعة الناس المؤهلين لتولّي مناصب أرفع تكون أكبر منها لو كان الأمر خلاف ذلك.
إن المستويات الإضافية من الحكم تزيد أيضاً من إمكانية المشاركة في صنع القرار عن غير طريق تولّي المناصب. فمجموعات أصحاب المصالح التي لا تتمكّن من التأثير لدى أحد مستويات الحكم قد تجد تقبلاً أفضل لأفكارها لدى مستوى آخر منه. فخلال الخمسينات والستينات من القرن الماضي، واجه دعاة الحقوق المدنية معارضة شديدة من الولايات الجنوبية التي كانت تعارض الاندماج العرقي، لكنهم وجدوا تأييداً لدى الحكومة القومية في جهودهم الرامية إلى تحقيق المساواة العرقية. في أوائل القرن العشرين، غالباً ما نجح دُعاة تنظيم أوضاع العمال وحماية البيئة في إقرار التشريعات اللازمة في الولايات، لكن الحكومة القومية أحبطت مساعيهم. لذلك فإن للنظام الفدرالي إمكانية جعل الحكم أكثر استجابةً للمصالح الاقتصادية والاجتماعية المتباينة، وأحياناً المتعارضة، لمختلف الولايات. وبهذه الطريقة، يشجع النظام ويساعد في إقامة إدارة سليمة ديمقراطية تعددية ضمن جمهورية كبرى. ثمّن جيمس ماديسون، وغيره من واضعي الدستور، تعددية جماعات أصحاب المصالح لأنها حالت دون تشكيل أكثرية دائمة يُمكن لها أن تدوس حقوق الأقلية.
أخيراً، يُعزز النظام الفدرالي الديمقراطية بتوفيره منبراً للانتقاد الفعّال للسياسات والممارسات الحكومية، كما لمعارضتها. فالحزب السياسي الذي قد يخرج من السلطة القومية قد يفوز بمناصب في الولايات والحكومات المحلية تتيح له تحدي سياسات الحكومة القومية والقرارات التي تتخذها. وفي حين قد تكون بعض هذه المعارضة على أساس حزبي بحت، فإن الكثير منها يعبّر دون شك عن تحفّظات جدّية على الحكمة من اتباع سياسة معيّنة أو اتخاذ إجراء معيّن. وهكذا، فإن النظام الفدرالي يحمي حرية المواطنين في معارضة أي سياسة قومية يعتبرونها خاطئة، وبهذه الوسيلة يشجع هذا النظام الانتقاد اللازم والفعّال للحكومة ما يؤدي إلى تعزيز الديمقراطية نفسها.
توتّر مُبدع
منذ أكثر من 200 سنة والنظام الفدرالي يوفّر إطار العمل لتطوير الديمقراطية الأميركية. قام هناك توتر دائم بين ما تتطلبه الحكومة الفدرالية وما تتطلبه حكومات الولايات. ولا يزال الأمر كذلك. إن تبديد هذا التوتر يستلزم تنبهاً دائماً لدور الحكم وإعادة تقييم مستمرة لتوزيع الصلاحيات الصحيح بين مستويي الحكم. هذا التوازن المتبدل دوماً، وهو توازن يولد الابتكار في معظم الأحيان، يستند إلى مبدأ سيادة الشعب. ولذا فإن النزاعات التي تحيط بالنظام الفدرالي تتناول مسألة أي من الحكومات، حكومة الولاية أو الحكومة القومية، هي التي تعبّر عن إرادة الشعب أفضل تعبير. وتتناول أيضاً مسألة ماهية القيم التي ستسود سوق الأفكار السياسية. لن تكون هناك مطلقاً أجوبة نهائية لهذه الأسئلة، كما أن التوتر الملازم للنظام الفدرالي لن يزول أبداً.
من خلال التوتر بين مستويات الحكم، بكل سيئاته، اكتشف الأميركيون ما لعله أفضل ضمان للحرية لديهم، لا يتقدم عليه في ذلك إلا حرصهم ويقظتهم. ولا شك في أن هذا كان ما أمل به جيل المؤسسين. فقد كتب جيمس ماديسون العام 1792 يقول: "إن لم يشوّه هذا التحسين لنظرية الحكم الحرّ أثناء تنفيذه، فقد يتبيّن أنه (أي النظام الفدرالي) أفضل تراث تركه المشرعّون لبلدهم، وأفضل درس أعطاه المتبرعون به للعالم". بالنسبة للدول التي تبحث عن شكل للحكم يعزز الحرية، فإن التراث الفدرالي هو مثل منَ الممكن اعتماده.
معلومات عن كاتب المقال:
دي. غراير ستيفنسون جونيور هو أستاذ مادة أنظمة الحكم في كلية فرانكلين ومارشال حيث يدرّس مواضيع النظام السياسي الأميركي، والمحكمة العليا الأميركية، والقانون الدستوري. من أعماله الأخرى: كتاب "الحملات الانتخابية والمحكمة: المحكمة العليا في الولايات المتحدة في الانتخابات الرئاسية"؛ كما اشترك (مع ألفيوس توماس مايسون) في تأليف كتاب "القانون الدستوري الأميركي: دروس تمهيدية وقضايا مختارة".
تجري المشاركة في الصلاحيات ورسم السياسات اليوم ضمن ما يصفه علماء مختصون بأنه نظام فدرالي تعاوني. إن هذه السمة في الحياة الأميركية أصبحت راسخة لدرجة أنها تستمر حتى عند اختلاف فرعي الحكومة، كما حصل في الستينات من القرن الماضي عندما تعاونت الولايات الجنوبية (مع الحكومة المركزية) في بناء طريق عابرة للولايات في نفس الوقت التي كانت تقاوم الاندماج العرقي الذي فرضته الحكومة الفدرالية. إن ما يجعل النظام الفدرالي التعاوني ممكناً هو عدد من الإجراءات العملانية، بما في ذلك المشاركة في النفقات، والتوجيهات الفدرالية، والاشتراك في الإدارة. فالكونغرس يوافق على دفع جزء من نفقات برامج تخدم المصلحة القومية مع أنها تفيد في الأساس سكان ولاية واحدة أو منطقة واحدة. من بين هذه البرامج الطرق، ومنشآت معالجة الصرف الصحي، والمطارات، وتحسينات أخرى للبنى التحتية المحلية أو التي تعود لولايات معيّنة. تُمنح الهبات الفدرالية مترافقة مع مجموعة من التوجيهات التي ينبغي على الولايات تبنّيها وتطبيقها كي تحصل على الأموال. على سبيل المثال، عمد الكونغرس في الآونة الأخيرة، لقلقه من قيادة السائقين سياراتهم وهم سكارى، إلى ربط حصول الولايات على الأموال التي تخصصها الحكومة الفدرالية للطرق بشرط قيام الولايات المعنية بفرض تخفيض الحد المقبول لمعدل الكحول في الدم ضمن قوانين السير لديها. أخيراً، يقوم المسؤولون في الولايات والمسؤولون المحليون بتطبيق سياسات فدرالية، إنما بموجب برامج من تصميمهم ومن خلال موظفي إداراتهم. إن برنامج إعادة التدريب على الوظائف هو أحد هذه البرامج، حيث تقوم كل ولاية بتطوير وإدارة برنامج تموّله الحكومة الفدرالية لتلبية الحاجات المعيّنة لمواطنيها. ما هي عِبَر التجربة الأميركية في تطبيق الفدرالية للحكومات الديمقراطية في أماكن أخرى من العالم؟ الحكومات الفدرالية ليست شائعة، فمعظم الدول يتبنى حكماً أحادياً تتركز فيه السلطة، كما أن النظام الفدرالي ليس ضرورياً للديمقراطية، كما تثبت تجربة الحكومات البرلمانية. ولكن مبادئ الفدرالية هامة للحكم الديمقراطي في أي مكان. الأهم بين هذه المبادئ هو توزيع الصلاحيات، وفصل السلطات، ولامركزية صنع السياسات، والعمل السياسي.
آمن الأميركيون منذ أمد بعيد بأن السلطة المركزية تهدد الحرية، وأكثر ما يخشونه تقليدياً هو ممارسة السلطة من قبل حكومة قومية يبعد مقرها عنهم. إن إناطة السلطة بمستويين من الحكم، وتوزيع هذه السلطة بشكل يجعل من كل مستوى سيداً في مجاله المستقل، كانا أحد الحلول لمشكلة كيفية منح الحكومة الصلاحيات الضرورية دون أن يؤدي ذلك إلى قيام سلطة مركزة تنال من الحريات. إن حكومات الولايات، وهي مستوى الحكم الأقرب إلى الناس، تضبط في الواقع سلطة الحكومة القومية. هذا الابتكار بدا منطقياً لجيل الآباء المؤسسين؛ وفي الواقع تستلزم نظرية التمثيل الأميركية وجود صلة جغرافية بين الممثل والذين يمثلهم. لا يزال الحكم المحلي يستهوي العقول الحديثة لأنه، كما قال أحد العلماء، يرضي "التفضيل الطبيعي لما هو قريب ومعروف والريبة مما هو بعيد ونظري". إن "حقوق الولايات"، كما تسمى الصلاحيات المعطاة للولايات في كثير من الأحيان، تستند إلى افتراض أن الإقليمية أو الخاصية المحلية هي أمر هام وأن الناس يثقون بحكومة يمكنهم التحكم بها. حكومات الولايات تفي بهذا الغرض أكثر مما تفعل الحكومة القومية. هذا الاعتقاد يفسّر لماذا ما زال الأميركيون يريدون سيطرة محلية على المؤسسات التي تؤثر في حياتهم اليومية، مثل أجهزة الشرطة، والمدارس والمستشفيات، كما يصرّون أيضاً على أن تصان حقوق المواطنين على الصعيد القومي وعلى ألاّ تختلف بين ولاية وأخرى. من الناحيتين النظرية والعملية، يلبي النظام الفدرالي كل من الاحتياجات المحلية والقومية ضمن إطار صلاحيات محدودة.
إن قدرة الفدرالية على استيعاب القضايا المحلية تسهم أيضاً في بناء الديمقراطية عن طريق إضفاء طابع اللامركزية على السياسات والعمل السياسي. الولايات المتحدة دولة كبيرة ومتنوعة جغرافياً. وهي أيضاً أمة مهاجرين، تحمل فيها كل مجموعة إثنية أو قومية أو دينية معها قيماً ثقافية وأخلاقية مختلفة إلى القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. من شأن حكم مثل هذه الدولة ديمقراطياً أن يكون أصعب بكثير لو لم يكن بالإمكان التعبير عن هذه الاختلافات واستيعابها بسهولة. فبإمكان الولايات أن تعتمد سياسات متباينة جداً في صدد المشكلة نفسها، ما يوفر السبيل للمواطنين لأن يعيشوا في الولاية التي تلائم سياستها قيمهم الأخلاقية أو الثقافية. تصوروا قضية القمار مثلاً. بعض الولايات يسمح به والبعض الآخر لا يسمح. سياسة كل ولاية تلائم حاجاتها، وتجاربها، وقيم أكثرية سكانها، كما تعبّر عنها قوانينها. في هذا المثل، يتبين أن تباين ممارسات الولايات مفيد لأن ليس هناك من إجماع قومي حول تأييد سياسة موحدة في هذا الأمر.
إن تنوع النهوج في ما خص السياسة العامة ليس كله فضيلة. ويجب ألا ينتقص هذا التنوع مطلقاُ من حقوق وامتيازات المواطنين. فحق المحاكمة من هيئة محلفين، مثلاً، يجب ألا يعتمد على أي وضع جغرافي. من الناحية العملية، يمكن للتنوّع أن يؤدي أيضاً إلى معاملة غير متساوية عندما لا تتمكن ولاية فقيرة مثلاً من تمويل برنامج أساسي للتعليم بمثل ما تستطيعه ولاية غنية. ولكن باستثناء الحقوق الأساسية، تعتبر القدرة على تجربة حلول مختلفة من الصفات المميزة للنظام الفدرالي.
كثيراً ما توصف الولايات بأنها مختبرات الديمقراطية، وذلك لسبب وجيه. فالبرامج والسياسات المبتكرة، بدءاً من الرعاية الاجتماعية والإصلاح التعليمي إلى أنظمة الصحة والسلامة، كثيراً ما وضعتها حكومات الولايات في أول الأمر. فقبل وقت طويل من قيام الحكومة القومية بذلك، ألغى العديد من الولايات الرق، ومَنَحت النساء والسود والبالغين الثامنة عشرة حق الانتخاب، وجعلت انتخاب أعضاء مجلس الشيوخ يتم من قبل الشعب مباشرة، إضافة الى إصلاحات أخرى. هذه الإجراءات التي قامت بها الولايات وسّعت نطاق ما تُبشّر به الديمقراطية من وعود في وقت لم تحظَ فيه أي من هذه الإصلاحات بإجماع قومي. في هذا المعنى، تقوم الولايات بمهمة الإصلاح السياسي كما تعمل كوسيط لاختبار الأفكار الجديدة والمساعدة في التوصل إلى حلول وسط مقبولة لخلافات بين الأكثريات في الولايات وفي البلاد ككل.
يوسّع النظام الفدرالي أيضاً مساهمة الناس في العمل السياسي والحكومي. فبقدر ما تزداد مستويات الحكم، بقدر ما تزداد فرص الناس للاقتراع في الانتخابات وتولّي المناصب العامة. يَنتخب مواطنو الولايات آلاف المسؤولين في حكومات الولايات والحكومات المحلية، بينما ينتخب كل المواطنين مسؤولين اثنين فقط هما الرئيس ونائب الرئيس. (قانونياً لا يَنتخب إيّاً من الرئيس أو نائب الرئيس كل الناخبين، بل تنتخبهما الهيئة الانتخابية التي يختارها المقترعون في كل ولاية، بالرغم من أن الانتخابات تكون بالفعل انتخابات قومية عامة). إن الكثير من المناصب المحلية تكون مجالات لتدريب من سوف يشغلون مناصب قيادية قومية في المستقبل. على سبيل المثال، بين آخر خمسة رؤساء للبلاد واحد فقط، هو جورج بوش الأب (1989-1993)، لم يكسب خبرة في مناصب حكومية لإحدى الولايات. فالرؤساء كارتر، وريغان، وكلينتون، وجورج دبليو بوش، شغلوا كلهم مناصب مُنتخبة في الولايات. ومع أن معظم شاغلي المناصب الرسمية في حكومات الولايات والحكومات المحلية لا ينتقلون إلى مناصب في الحكومة القومية، لكنهم جميعاً يتعلمون دروساً قيّمة حول دور الحكومة في المجتمع الديمقراطي، وهي دروس تعزز في نهاية المطاف العلاقة بين الحكومة والمواطنين. يستفيد المجتمع من ذلك أيضاً لأن مجموعة الناس المؤهلين لتولّي مناصب أرفع تكون أكبر منها لو كان الأمر خلاف ذلك.
إن المستويات الإضافية من الحكم تزيد أيضاً من إمكانية المشاركة في صنع القرار عن غير طريق تولّي المناصب. فمجموعات أصحاب المصالح التي لا تتمكّن من التأثير لدى أحد مستويات الحكم قد تجد تقبلاً أفضل لأفكارها لدى مستوى آخر منه. فخلال الخمسينات والستينات من القرن الماضي، واجه دعاة الحقوق المدنية معارضة شديدة من الولايات الجنوبية التي كانت تعارض الاندماج العرقي، لكنهم وجدوا تأييداً لدى الحكومة القومية في جهودهم الرامية إلى تحقيق المساواة العرقية. في أوائل القرن العشرين، غالباً ما نجح دُعاة تنظيم أوضاع العمال وحماية البيئة في إقرار التشريعات اللازمة في الولايات، لكن الحكومة القومية أحبطت مساعيهم. لذلك فإن للنظام الفدرالي إمكانية جعل الحكم أكثر استجابةً للمصالح الاقتصادية والاجتماعية المتباينة، وأحياناً المتعارضة، لمختلف الولايات. وبهذه الطريقة، يشجع النظام ويساعد في إقامة إدارة سليمة ديمقراطية تعددية ضمن جمهورية كبرى. ثمّن جيمس ماديسون، وغيره من واضعي الدستور، تعددية جماعات أصحاب المصالح لأنها حالت دون تشكيل أكثرية دائمة يُمكن لها أن تدوس حقوق الأقلية.
أخيراً، يُعزز النظام الفدرالي الديمقراطية بتوفيره منبراً للانتقاد الفعّال للسياسات والممارسات الحكومية، كما لمعارضتها. فالحزب السياسي الذي قد يخرج من السلطة القومية قد يفوز بمناصب في الولايات والحكومات المحلية تتيح له تحدي سياسات الحكومة القومية والقرارات التي تتخذها. وفي حين قد تكون بعض هذه المعارضة على أساس حزبي بحت، فإن الكثير منها يعبّر دون شك عن تحفّظات جدّية على الحكمة من اتباع سياسة معيّنة أو اتخاذ إجراء معيّن. وهكذا، فإن النظام الفدرالي يحمي حرية المواطنين في معارضة أي سياسة قومية يعتبرونها خاطئة، وبهذه الوسيلة يشجع هذا النظام الانتقاد اللازم والفعّال للحكومة ما يؤدي إلى تعزيز الديمقراطية نفسها.
توتّر مُبدع
منذ أكثر من 200 سنة والنظام الفدرالي يوفّر إطار العمل لتطوير الديمقراطية الأميركية. قام هناك توتر دائم بين ما تتطلبه الحكومة الفدرالية وما تتطلبه حكومات الولايات. ولا يزال الأمر كذلك. إن تبديد هذا التوتر يستلزم تنبهاً دائماً لدور الحكم وإعادة تقييم مستمرة لتوزيع الصلاحيات الصحيح بين مستويي الحكم. هذا التوازن المتبدل دوماً، وهو توازن يولد الابتكار في معظم الأحيان، يستند إلى مبدأ سيادة الشعب. ولذا فإن النزاعات التي تحيط بالنظام الفدرالي تتناول مسألة أي من الحكومات، حكومة الولاية أو الحكومة القومية، هي التي تعبّر عن إرادة الشعب أفضل تعبير. وتتناول أيضاً مسألة ماهية القيم التي ستسود سوق الأفكار السياسية. لن تكون هناك مطلقاً أجوبة نهائية لهذه الأسئلة، كما أن التوتر الملازم للنظام الفدرالي لن يزول أبداً.
من خلال التوتر بين مستويات الحكم، بكل سيئاته، اكتشف الأميركيون ما لعله أفضل ضمان للحرية لديهم، لا يتقدم عليه في ذلك إلا حرصهم ويقظتهم. ولا شك في أن هذا كان ما أمل به جيل المؤسسين. فقد كتب جيمس ماديسون العام 1792 يقول: "إن لم يشوّه هذا التحسين لنظرية الحكم الحرّ أثناء تنفيذه، فقد يتبيّن أنه (أي النظام الفدرالي) أفضل تراث تركه المشرعّون لبلدهم، وأفضل درس أعطاه المتبرعون به للعالم". بالنسبة للدول التي تبحث عن شكل للحكم يعزز الحرية، فإن التراث الفدرالي هو مثل منَ الممكن اعتماده.
معلومات عن كاتب المقال:
دي. غراير ستيفنسون جونيور هو أستاذ مادة أنظمة الحكم في كلية فرانكلين ومارشال حيث يدرّس مواضيع النظام السياسي الأميركي، والمحكمة العليا الأميركية، والقانون الدستوري. من أعماله الأخرى: كتاب "الحملات الانتخابية والمحكمة: المحكمة العليا في الولايات المتحدة في الانتخابات الرئاسية"؛ كما اشترك (مع ألفيوس توماس مايسون) في تأليف كتاب "القانون الدستوري الأميركي: دروس تمهيدية وقضايا مختارة".
نجــــــــــــــــــــــــــــــــــــد :: نجـــــــــد العامـــــــــــــــــــــــــــــــة :: تقارير أمريكية
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى